للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قبسات من نور الربوبية في سورة الأنعام]

يقول الله عز وجل في أول السورة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:١ - ٣].

تبدأ السورة بـ (الحمد لله)، أي: الثناء المطلق على الله؛ لأنه هو الذي يستحق الحمد والثناء على ألوهيته المتحققة والمتجلية في خلق السماوات والأرض، وما دام أنه الخالق للسماوات والأرض وما بينهما إذاً فهو المحمود وحده {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأنعام:١] لماذا؟! لأنه {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:١] ثم تتصل الألوهية بالخصيصة الأولى من خصائص الربوبية وهي الخلق؛ فإنه لا خالق إلا الله.

فمن خصائص الله وصفاته: أنه الخالق، وليس هناك من يخلق غير الله سبحانه وتعالى، ولهذا تحدى الله البشر بأن يخلقوا ذبابة -والذباب أضعف شيء في الدنيا- يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:٧٣] فالطالب الإنسان، والمطلوب الذباب، ضَعُف الإنسان والذباب، ولكن الذباب أقوى؛ لأنه يسلب، بينما الإنسان يطارد الذباب فلا يستطيع أن يأخذ الذي أخذه منه.

قال العلماء: كل الحشرات والبهائم والمخلوقات إذا أكلت الطعام فإنها تنزله إلى المعدة ثم تجري عليه عمليات الهضم، ثم يتوزع بواسطة الدم إلا الذباب، لأنه ليس لديه معدة، فينتقل الطعام من فمه إلى الدم مباشرة، ويتحلل كيماوياً، ولهذا إذا أخذ السكر، أو قطعة الحلوى، أو أي شيء من الطعام وأدخله في فمه فإنه يذوب ويتحلل بحيث لو أمسكت بالذباب وأردت أن تُخرج منه شيئاً لا تستطيع إخراجه؛ لأنه قد تحول إلى شيء آخر {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:٧٣].

ولو اجتمع من في الأرض كلهم على أن يخلقوا ذبابة ما استطاعوا، بل ولا حتى شعيرة، لماذا؟ لأن الخلق من خصائص الرب سبحانه تبارك وتعالى.

ثم تحدث الله في سورة الأنعام عن أضخم الظواهر الكونية الناشئة عن خلق السماوات والأرض وهي: جعل الظلمات والنور، الظلمات الحسية والنور الحسي، والظلمات المعنوية والنور المعنوي، وكما ذكرت لكم في الدرس الماضي: أن النور هو نور الله، وأن هناك -كما يقول العلماء- نوران وظلمتان، لا يتم الاستفادة من أحدهما إلا بوجود الثاني، النور الأول: نور معنوي، والنور الثاني: نور مادي، وزيادة في الإيضاح: الشمس والمصباح لهما نور، لكن لا يتم الاستفادة من نور الشمس أو المصباح إلا بنور البصر.

إذاً لا تتم الاستفادة من نور الكهرباء أو الشمس أو المصباح إلا إذا وجد نور العين الذي هو نور الإبصار.

فإذا لم يكن الإنسان مبصراً فهل يرى الإنسان النور؟ لا.

أو وُجدت العين الصحيحة السليمة لكن ليس هناك نور هل يرى الإنسان في الظلام؟ لا.

لا يرى.

إذاً لا بد من النورين: نور البصر ونور الضوء.

وكذلك في الناحية المعنوية لا بد من نورين: نور القرآن ونور البصيرة، فالذي عنده نور القرآن والإيمان {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥] فإنه يستفيد من هذا النور، وأما من عنده نور القرآن ولكن ليس عنده نور الإيمان فإنه لن يستفيد، مثله مثل المنافقين الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يرون الرسول بأعينهم، ويعايشون نزول الوحي من السماء حسب الوقائع والأحداث، لكن لما انعدم نور القلوب كفروا بالله سبحانه وتعالى، لذلك يقول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:١٢٤ - ١٢٥].

فإذا وجد في قلبك نور الإيمان؛ استفدت من نور القرآن ونور السنة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والإسلام والصلاة.

وإذا لم يكن في قلب العبد نور الإيمان فلن يستفيد من نور القرآن، لماذا؟ لأن مثله كمثل الذي عنده شمس لكن ليس عنده بصر فلا يستفيد من الشمس؛ لأنه ليس لديه بصر، وكذلك لا يستفيد من نور الدين إلا من كان عنده نور بصيرة إيمانية تملأ قلبه.

إذاً: تلك وقفة مع قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١].

ثم قال عز وجل بعد هذا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١] يا لها من مفارقات بين دلائل ناطقة في الكون بخلق الله للسماوات والأرض وبين انحراف وميل الكافر عن المنهج السوي! مفارقات تعدل الأجرام الضخمة، والمسافات الواسعة بين تلك الأجرام، وتعدل الظواهر المتنقلة.