للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تقديمهم إلى العذاب الشديد مقرنين في الأصفاد]

ولما كان المجرم والكافر متمرداً على الله، هارباً منه، مستكبراً عن عبادته، فإنه يؤتى به يوم القيامة مقبوضاً عليه، مقرناً، أي: في القيد؛ لأنه لو ترك لم يأت، وهذا شأن كل مجرم في الدنيا، فإن أي مجرم لا يحضر إلا بقيد، والقيد توقعاً لهروبه، أما هؤلاء فإلى أين يهربون يوم القيامة؟! يقول الله حكاية عن الكافرين: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:١٠] * {كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:١١] * {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:١٢] فيؤتى بهم وهم مقرنون في الأصفاد، تجمع أيديهم مع أقدامهم إلى رقابهم ثم يوضعون في قيد واحد.

يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:٤٨] * {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [إبراهيم:٤٩] * {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:٥٠] ملابسهم من القطران، أي: الزفت {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:٥٠] الأيدي والأقدام والرقاب مقرنة كما تقرن البقر في الأضماد يقرنون في الأصفاد، وملابسهم الفاخرة تجدها من قطران أسود، وتشب على وجوههم النار.

ثم قال الله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [إبراهيم:٥١] إن الله سريع الحساب ولو أمهلهم، وفي هذه الأجواء يؤتى بهم على هذا الوضع المزري مقرنين مكتفين وسرابيلهم من قطران، في تلك اللحظات يحصل شيء عظيم آخر وهو: أن الشمس تدنو من الرءوس، تقترب منهم حتى تغلي رءوسهم كما يغلي اللحم في القدر، وأما أهل الإيمان فإنهم في مظلات الرحمن، اللهم إنا نسألك من فضلك يا مولانا، ونسألك أن تظلنا في ظلك نحن وآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأنتم إن شاء الله منهم كما في الحديث في صحيح مسلم (وشاب نشأ في عبادة الله) أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.

وشاب نشأ في عبادة الله لم يعرف الهوى ولا الغناء ولا الزنا، وإن عرفها تركها وتاب إلى الله.

أخي حفظك الله! اصبر.

كم هذه الدنيا، خمسين أو ستين سنة؟! لماذا تعرض نفسك لهذا العذاب؟ وما بين الرجل منا والجنة والنار إلا أن يموت؟ يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده! إن الجنة أو النار أقرب لأحدكم من شراك نعله).

شراك نعلك الذي في رجلك والله إن الجنة والنار أقرب إليك منه، فإذا أتتك منيتك تَحَدَّدَ مصيرك.

فمن يضمن أنه يعيش هذا الأسبوع أو هذا الشهر، ما يدريك يا أخي! لعلك لا تنام اليوم، فلماذا نفرط؟ ولماذا لا نتق الله في ديننا وإسلامنا.

ففي تلك اللحظات وتلك الأجواء يؤتى بالشمس وتدنو حتى لا يكون بينها وبين الناس إلا مقدار ميل، والميل ورد في ذكره في صحيح مسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل) يقول سليم بن عامر: [والله لا أدري هل هو ميل المسافر أو ميل المكحلة] وسواء هذا أو هذا فكلها مصيبة، فإن ميل المسافة كم سيكون الميل يساوي [١٧٠٠] متر تقريباً، كيلو وثلثين، لكن أين الشمس الآن؟ ومن يستطيع أن يجلس فيها لحظة في النهار؟

تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا

فلست تطيق أهونها عذاباً ولو كنت الحديد بها لذبتا

فكلما صعد الإنسان إلى أعلى تعرض للصهر والاحتراق، فالذين يصعدون إلى الفضاء تكون لهم ملابس خاصة تتحمل درجة الحرارة العالية والتي قد تصل إلى (٤٠٠) درجة مئوية فوق الصفر.

ولكنها يوم القيامة تدنو على رءوس الناس، وفي تلك اللحظات يقوي الله أجسادهم كي تتحمل النار؛ لأنهم خلق جديد لن يموت، فهم خلقوا وماتوا، ثم بعثوا ولن يموتوا بعدها، فتأتي النار فتحرقهم وتصهر أجسادهم وتذيب جلودهم ويسيل معها العرق إلى درجة أنه يلجم بعضهم إلجاماً، وهذا حديث في صحيح مسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (يكون الناس على قدر أعمالهم من العرق، فمنهم من يكون عرقه إلى كعبه، ومنهم من يكون عرقه إلى ركبتيه، ومنهم من يكون عرقه إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاماً، وأشار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى فمه).

من منا الآن يعرق ويسيل عرقه أمامه مثل الماء؟! إن أعلى درجة حرارة في الرياض أو جدة تصل الآن (٤٥) درجة مئوية، الآن الماء لا تتحمله لأنه ساخن بدرجة (٤٥) درجة، ومهما بلغت درجة حرارة الأرض فلا يمكن أن يسيل عرقك سيلاً أمامك، فكيف بيوم فيه العرق أنهاراً بل بحاراً يغطي الناس من كثرته.