للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العقاب سنة الله فيمن عصاه من الأمم]

إن هؤلاء الكفار يتخذون موقفاً واحداً في جميع شئونهم وهو: العناد، والإصرار، والمكابرة، والرفض، والإعراض، فقد كذبوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وكذبوا بالرسل من قبله: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:٥] ويتركهم الله عز وجل أمام هذا التهديد المجمل فلا يبينه، فلا يعرفون نوع التهديد ولا موعده، ويتركهم في غاية من الخوف يتوقعونه في كل لحظة من اللحظات؛ لأنهم يتأكدون من صدقه.

جاء سعد بن معاذ إلى مكة والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل الفتح، فجاء يطوف بالبيت على عادة العرب، فمنعته قريش؛ لأن قريشاً كانت مسيطرة على الكعبة، وتعرف أن سعد بن معاذ هو الذي أيد النبي صلى الله عليه وسلم، واستقبله في المدينة، فمنعوه، فدخل في جوار أمية بن الخلف، وأمية هذا من صناديد قريش، وكان صديقاً وصاحباً لـ سعد بن معاذ قبل إسلامه، فدخل عليه فعرفه، لأنه صاحبه وزميله، فقال له: أريد أن أطوف في البيت فمنعتني قريش، قال: أنت في جواري فطف بالبيت، وخرجا إلى البيت وجعل يطوف بالبيت وهو في يده، فلما رأته قريش ما استطاعوا أن يقولوا له شيئاً؛ لأن معه أمية، فجاءه أبو جهل وقال: لماذا جعلته يطوف بالبيت وهو الذي صنع ما صنع؟ وهو الذي آوى محمداً، فنظر أمية إلى سعد وقال: أجب، قال: أجب أنت فإني لا أطوف في جوارك ولكني أطوف في جوار الله، فغضب أمية، فقال له سعد: لا تغضب فإن محمداً قاتلك، قال: أوأخبرك؟ قال: نعم.

قال: متى؟ قال: لم يبين وقت ذلك، فترك يده وذهب إلى البيت، ولما دخل على امرأته قال: إن هذا الأنصاري يقول: إن محمداً قاتلي ووالله لا يكذب محمداً، -يعرفون صدق النبي وهم كفار- قالت: هل أخبرك متى أو أين؟ قال: لا.

ومرت الأيام، وتأتي قافلة قريش من الشام، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم لاقتطاعها في غزوة بدر، ويرسل أبو سفيان زعيم القافلة رسولاً اسمه: ضمضم بن عمرو الغفاري إلى أهل مكة يطلب منهم الخروج لإنقاذ القافلة، فخرجت مكة بأسرها إلا أمية وكان رجلاً كبيراً -يعني: ذو هيئة- وصنديداً لا أحد مثله، ولكنه لم يخرج خوفاً من وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علم عقبة بن أبي معيط بعدم خروجه أخذ مجمر من المجامر ووضع فيه بخوراً من بخور النساء ودخل عليه ورفع ثوبه وجعل البخور تحت ثوبه قال: ما هذا يا عقبة؟! قال: هذا مجمر النساء نبخرك فإنما أنت امرأة -أي: اجلس على المجمر مع النساء- قال: ولم؟ قال: لأنك ما خرجت مع قومك لإنقاذ القافلة، فضربه، وقال: قاتلك الله! والله لقد أقذعت في سبي، ثم حمل ثوبه ودخل بيته ولبس درعه وملابس الحرب وخرج، فلحقته امرأته، وقالت: يا أمية أما تذكر قول الأنصاري: إن محمداً سوف يقتلك؟ قال: والله إنه قاتلي لكن لا خير في الحياة مع المجمر.

وفعلاً خرج وقتله الله، وحقق الله قول النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هذا الرجل.

فهذا من التهديد الذي ذكره الله في القرآن الكريم بقوله عز وجل: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام:٥ - ٦] ألم يروا مصارع الأجيال الماضية، وقد مكنهم الله وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط قريشاً في الجزيرة، أرسل المطر عليهم مدراراً، وأخصب الأرض وأنبتها بالأشجار والأرزاق، ثم ماذا؟! ثم عصوا ربهم، فأخذهم الله بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم أجيالاً أخرى، لتأتي وترث الأرض من بعدهم، مضوا والدنيا غير مكترثة بهم وورثها قوم آخرون! فما أهون العصاة والكفرة والمكذبين على الله، ما أهونهم على الأرض والحياة، لقد هلكوا فما أسفت عليهم الدنيا، لقد ذهبوا وجاء من يعمِّر الحياة من بعدهم.

وهي -أيها الإخوة- حقيقة ينساها البشر حينما يُمَكِّن الله لهم في الأرض، فينسون أن هذا التمكين من الله، وأن الله إنما مكنهم ليبلوهم فيما آتاهم بالعبودية له وحده، والتلقي عنه وحده؛ لأنه صاحب الملك الذي أعطاهم، إنها حقيقة ينساها الناس إلا من عصم الله، ينسون الله فيعبدون أهواءهم وشهواتهم، ثم ينحرفون عن عهد الله فتتحقق فيهم سنّة الله، ولا تتبين لهم سنته في أول الطريق، ولا يرون العقوبة في أول الأمر إنما يقع الفساد رويداً رويداً وهم ينزلقون وما يشعرون، حتى يستوفي الكتاب أجله، ويحق عليهم وعد الله وتتعدد صور الإهلاك في النهاية وتختلف: فمرة يأخذهم الله عز وجل بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ومرةً يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات، ومرةً يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض، ومرةً يأخذهم بالصيحة، ومرةً يأخذهم بالغرق، ومرةً يأخذهم بالحرق، ومرةً يأخذهم بالعواصف والتدمير والزلازل، وهي سنة الله التي لا تتبدل، لماذا؟ لأنهم خالفوا أمر الله عز وجل.

وإن مما ينخدع الناس فيه: أن يروا الفجرة والمستهترين، والكفرة والملحدين ممكنين في الأرض، غير مأخوذين من قبل الله، والناس مساكين يستعجلون ولا يرون إلا أول الطريق، لا يرون نهاية الأمر، انظروا إلى فرعون والذين كانوا معه في عصره يقولون: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:٨٨] قال الله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:٨٩] استمر فرعون بعد دعوة موسى سنين طوال وهو في ملكه، ولكن ماذا حصل في النهاية؟ الغرق والتدمير.

وعاد وثمود، وكل الأمم التي كذبت، كان الناس في وقتهم يقولون: لماذا لا يأخذهم الله؟ فالله يأخذهم لكن لا يعجل لعجلة الناس، انظر فقط للنهايات، كذلك من يموت على الكفر ممن يعيشون معنا الآن من يمنعهم من الله؟ لا يمنعهم من الله أحد، ولكن الناس يستعجلون؛ لأنهم يرون البداية فقط ولا يرون نهاية الأمر، ونهاية الطريق لا تُرى إلا بعد أن تقع، لا تُرى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث، والقرآن كله يوجه الناس إلى النظر، والتأمل، والتنبه لمصارع الغابرين، حتى لا ينخدع المخدوعون في حياتهم الفردية القصيرة المحدودة؛ فيرون أول الشيء ولا ينظرون لنهايته، وإن نهاية الشيء لا يعلمها إلا الله.