للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل مجالس العلم]

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:١٠٢ - ١٠٣] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

ثم أما بعد: أيها الإخوة في الله! كم هو جميل وعظيم عند الله أن نجتمع على ذكر الله، في روضة من رياض الجنة، تحفنا فيها الملائكة، وتغشانا فيها الرحمة، وتنزل علينا السكينة، ويذكرنا الله عز وجل فيمن عنده.

إن هذا المجلس المبارك المجلس الإيماني، القرآني، النوراني هو الرصيد الذي سوف يبقى للإنسان بعد أن يغادر هذه الحياة، وسوف يتحسر ويتألم ويتندم أن أوقاته لم تكن كلها مثل هذه الجلسة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله عز وجل فيه، إلا كان عليهم من الله ترة يوم القيامة) أي: عهدة ومؤاخذة عن كل مجلس وعن كل ساعة قضيتها -أيها الإنسان- في غفلة عن ذكر الله.

أما هذا المجلس فإن الغنيمة التي تحصل عليها بجلوسك فيه هذه الساعة أو هذه الدقائق غنيمة غالية، وثمرة عالية، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلق الذكر).

والله يخبر أن من يعرض عن هذه المجالس فإن الشيطان يتسلط عليه، فيكون له قريناً في الدنيا، وقريناً في النار في الآخرة، قال عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:٣٦] وقال عز وجل {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:٣٧ - ٣٨] قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩].

ويخبر ربنا تبارك وتعالى أن من أعرض عن ذكر الله، وترك مجالس الذكر، ولم يحرص على الجلوس فيها؛ فإن الشيطان -والعياذ بالله- يتسلط عليه، وأن الله عز وجل يعرض عنه، فقال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:١٢٤ - ١٢٧].

ويخبر ربنا تبارك وتعالى أن الذي يعرض عن ذكر الله ولا يحرص على مجالس الذكر فإن الشيطان يتسلط عليه، فيقول عز وجل وهو يضرب لنا مثلاً ممن كان في الأمم السابقة قبلنا: آتاه الله العلم، والدين، والآيات، والدلالات، ولكنه انسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، قال عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦].

وبئس هذا المثل يا عباد الله! من يؤت القرآن والدين، وتعرض عليه السلعة الغالية ويرفضها، انظر إلى التعبير قال الله عز وجل: {فَانسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:١٧٥] والانسلاخ: هو ترك الشيء مع عدم الرغبة في العودة إليه، أنت عندما تخلع ثوبك من أجل أن تنظفه وتزيل ما فيه من الأوساخ والأقذار ما تقول: سلخت ثوبي، بل تقول: خلعت ثوبي أو وضعت ثوبي، لكن إذا سلخت جلد الشاة، ما تقول: خلعت جلدها، بل تقول: سلخت جلدها؛ لأنه لا يوجد أمل أن يرجع جلدها إليها، فهذا الذي انسلخ من الدين كأنه لم يعد يريده، يرفض الآيات، قال الله تعالى: {فَانسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:١٧٥] فماذا حصل له بعد الانسلاخ؟ {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:١٧٥] لأنه كان في حصن، وحرز، وحماية، ووقاية بأسباب الآيات، والقرآن، والدين، كان محروساً بدين الله، ومحفوظاً بآيات الله، ومحاطاً بعناية الله، فلما انسلخ منها أصبح خلواً، مكشوفاً، عارياً، قال الله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:١٧٥] فماذا حصل عندما أتبعه الشيطان؟ {فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ} [الأعراف:١٧٥].

ومن كان الشيطان تابعه ومتبوعه كان من الغاوين، قال عز وجل: {فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦] انغمس في الحمأة الوبيئة، وتلطخ بالتراب القذر، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه ولم يتبع مولاه، اتبع هواه ولم يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، اتبع هواه ولم يتبع كتاب الله {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:١٧٦].

فهنيئاً لكم -أيها الإخوة- هذا المجلس، وجزى الله كل خير من ساهم فيه ودل عليه وسار في أسبابه، ونسأل الله جل وعلا أن ينفعنا بما نقول وما نسمع، وأن يجعل ما نسمع وما نقول حجة لنا لا علينا.