للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طريقة عرض مشاهد من يوم القيامة]

أما الأمر الثالث: فهو عرض أحداث ومشاهد وأشياء تحدث في القيامة لا نعرفها نحن، ولكن الله من رحمته بنا نقل لنا صوراً حية من أجل أن نعتبر ونتوب، ونكون ممن يعيش هذه الأحداث، ولا نتأسف حين لا ينفع الأسف، نذكر لكم ثلاثة أحداث، أو ثلاث قضايا ومشاهد: مشهد بين مصدق الجنة ومكذب النار: المشهد الأول: مشهد حوار بين رجلين، رجل مصدق من أهل الجنة ورجل مكذب من أهل النار، وكانا في الدنيا زملاء وشركاء في تجارة، ذكر الله تعالى قصتهما في سورة الصافات، ونقل ابن كثير قصتهم في التفسير، وملخص القصة: أنه كان هناك رجلان مؤمن وكافر، وكانا شريكين في تجارة، وكان المؤمن يشتغل دائماً بالآخرة، ويعطي الدنيا جزءاً يسيراً من الاهتمام، وكان الكافر معرضاً عن الآخرة ويعطي الدنيا كل الاهتمام، ليله ونهاره مع التجارة ولكن ذاك إذا جاء وقت الصلاة ترك تجارته وذهب.

ولكن هذا الكافر ما أعجبه هذا وقال له: أنا أتعب، وأنا الذي أثمن المال، وأنا الذي أنميه وأحرص على زيادته، وأنت على الهامش، إما أن تشتغل مثلي وإلا نتقاسم، قال: نتقاسم، فحصرا المال فوجداه ثمانية آلاف دينار، فاقتسما المال وأخذ كل واحد أربعة آلاف دينار، أخذ هذا المؤمن ماله وكنزه، وأخذ هذا الكافر ماله وبدأ يستغله.

لكن كيف استغله؟ اشترى مزرعة كبيرة طويلة عريضة بألف دينار، ثم بعد ذلك حفر فيها الآبار، وشق فيها التراب، واشترى بألف ثانية عبيداً وخدماً يخدمونه ويعملون فيها، واشترى بالألف الثالث قصراً من أعظم القصور في الدنيا، والألف الرابعة تزوج بها زوجة من أجمل نساء الدنيا، وتمت له النعمة، مزرعة عظيمة، وخدم يخدمون فيها، وقصر عظيم وزوجة جميلة، ماذا يريد بعد ذلك؟ ثم لقي صاحبه بعد أيام قال له: ماذا صنعت بالمال؟ قال: لم أصنع به شيئاً، قال: أنا أعلم أنك ستضيع المال، قال: أنت ماذا صنعت به؟ قال: اشتريت مزرعة وبنيت فيها قصراً وتزوجت زوجة، فقال له: حسناً ما صنعت، وجاء الليل فقام هذا المؤمن يصلي وقال: اللهم إن شريكي فلاناً اشترى مزرعة في الدنيا يموت ويتركها، واشترى عبيداً يموت ويتركونه أو يموتوا ويتركونه، وبنى قصراً يموت ويخرج منه، وتزوج بزوجة جميلة يموت ويتركها أو تموت وتتركه، اللهم إني أشتري عندك حديقة في الجنة، وأشتري عندك خدماً في الجنة، وأشتري عندك بيتاً في الجنة، وأخطب عندك حوراء في الجنة بأربعة آلاف دينار، وقام في الصباح وأخذ المال ودفع الثمن مقدماً، ووزعه على عباد الله، ولم يبق معه شيء.

والله عز وجل ابتلاه وزاد له في الاختبار، فظل فقيراً مدة من الزمان حتى إنه آوته الحاجة إلى أن يتسول فلم يجد أحداً يعطيه، وتذكر وقد كاد يموت من الجوع صديقه ذاك فقال: أذهب إليه لعلي أجد عنده حاجتي، فذهب إليه ووقف بالباب، فلما رآه الخدم والعبيد طردوه، قالوا له: انصرف لا يخرج سيدنا ويراك فيعاقبنا، أنت بمنظرك هذا وبثيابك البالية والمقطعة تشوه منظر القصر، قال: قولوا لسيدكم فلان يريدك، قالوا: أنت تعرف سيدنا؟ قال: نعم أنا أعرفه ويعرفني، فذهب واحد من الخدم وقال له: يوجد شخص فقير في الباب يقول إنك تعرفه ويعرفك اسمه فلان، فالرجل تذكره ونزل إليه، فلما رآه بهذه الحالة وسلم عليه، قال له: أسألك بالله أين مالك الذي كان معك؟ قال: أقرضته قال: ومن أقرضته، من الذي يقرض حقه؟ قال: أقرضته المليء الوفي، المليء الذي لا يضيعه، والوفي الذي يرد رداً عظيماً، قال: من؟ قال: ربي، فنزع يده منه وضربه وقال له: اذهب إليه، فرجع منكس الرأس من الذل، فأعطاه الله ما أقرضه، وأدخله الجنة التي قد اشترى منه فيها، وذلك أدخله الله تعالى في السجن؛ لأنه ليس معه شيء فحبسه الله في سجن الآخرة.

فيخبر الله عز وجل يوم القيامة في سورة الصافات أن المؤمن هذا يتحدث عن رفيقه هذا، قال عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:٥٠ - ٥١] أي: من أهل الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:٥١] رفيق صاحب زميل شريك {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:٥٢ - ٥٣] يقول لزملائه: كان لي صديق يقول: أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً سنبعث وندان ونحاسب {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:٥٣] وبينما هم في الكلام يخاطب زملاءه، وإذا بخطاب يأتيهم قال: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:٥٤] تريدون أن تروه، هو موجود، ولكن ليس في هذه الدار هو في الدار الثانية، ما أعجز الله، وما أفلت هو مقبوض عليه {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ} [الصافات:٥٤ - ٥٥] يعني: من أعلى {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٥٥] رآه وهو كالفحمة يتقلب في النار، لم ينفعه القصر ولا الزوجة ولا المزرعة ولا العبيد، هل نفعه شيء من هذا النعيم؟ لا.

الآن الدنيا هذه مثل البطن، تشبعه أول وجبة، الآن نحن كم قد أكلنا وكم تغذينا، مرات ومرات، وكذلك إذا مات الإنسان ولو تنعم بكل نعيم، ولو تزوج بكل جميلة، ولو ملك كل ريال، ودخل القبر ورأى حفرة من حفر النار والله ما يبقى من نعيم الدنيا شيء.

ولكن لو تعذب في الدنيا بكل عذاب، وتعب بكل تعب، ومات ووجد القبر روضة من رياض الجنة والله ما بقي معه من ذاك التعب شيء {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٥٤ - ٥٥] فكلمه: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:٥٦] أي: إن كدت لتهلكني بموقفك ذاك، وردك عليَّ، وطردك لي {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات:٥٧] أنه ثبتني على الإيمان {لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:٥٧] ثم يلتفت إلى إخوانه في الجنة ويقول: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:٥٨] لم يعد يوجد موت {إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى} [الصافات:٥٩] أي: الموتة التي أخذناها في الدنيا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:٥٩ - ٦٠].

والله هذا هو الفوز العظيم {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١] لمثل هذا المصير فليجتهد المجتهدون، وليشمر المشمرون، وبعض الناس إذا مكث في العسكرية أو ذهب إلى الغربة سنين، ثم جاء بأموال واشترى مزرعة وبنى قصراً وتزوج قالوا: والله فلان حليم؛ لأن معه مالاً، ولو جاء وعليه دين وهو مؤمن ويتقي الله ويعلم الناس الدين، قالوا: والله هذا وضيع، تغرب وجاء بكتاب، فلا إله إلا الله! والله! إن الرجل الحقيقي هو الذي يأتي بدين الله، الرجل الحقيقي هو الذي أثنى الله تعالى عليه بالرجولة وقال: {فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة:١٠٨] يعني: في المسجد {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:١٠٨] وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:٣٦ - ٣٧] الرجولة الحقة في دين الله، ليس الرجل من يجمع المال ويضيع الدين، ولكن الرجل من يجمع الدين، فإذا جمع الدنيا مع الدين فشيء طيب:

ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا لا بارك الله في دنيا بلا دين

فهذا يقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١] ثم يقول الله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً} [الصافات:٦٢] يعني: هذه الجنة العالية خير نزلاً {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:٦٢] يسأل العقول يقول: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:٦٢]؟ لا يوجد شك أن الجنة أفضل من شجرة الزقوم، قال الله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٦٤] وتخيلوا شجرة تنبت في النار كيف تكون؟ معلوم أن الإحراق ضد الشجر، فلا يوجد شجر ضد النار إلا شجر النار {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا} [الصافات:٦٤ - ٦٥] يعني: ثمرتها {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:٦٥ - ٦٦] أي: يأكلون من ثمرها الطالع من النار.

{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:٦٧] والشوب: هو الماء الذي يتجمع مع غليان الماء، الماء إذا غلى يتجمع ويصعد منه شوب إلى أعلى، هذا هو أحر شيء في الماء، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} [الصافات:٦٧ - ٦٨] المرد إلى أين؟ {لإٍلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:٦٨] لماذا؟ قال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:٦٩ - ٧٣].

وهذا مشهد من مشاهد يوم القيامة، ولا أظن أحداً يريد أن يدخل في هذه الدار ما من أحد يريد أن يدخل النار! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (