للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المعاصي سبب للهلاك والدمار]

فإذا عُرِف ذلك -أيها الإخوة- فإن المعاصي كما ذكر الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في كتابه القيم: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: المعاصي هي أسباب كل نقص، وأسباب كل شر وفساد في الأديان، والبلاد، والعباد، يقول عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:٤٥] ومقتضى العدل أن العبد إذا وقع في معصية عاقبه الله؛ ولكن هل يعاقب الله الناس على كل شيء؟! لا.

بل يمهل سبحانه، ويعفو، ويصفح، ويستر، فيعصي العبد ربه مرةً، ويوماً، وسنةً، وشهوراً، وسنينَ، ثم يحلم عليه سبحانه، ولا يعاجله بالعقوبة، فإذا تاب وأناب قَبِل الله توبته، ومَحا حَوبته، وغفر ذنبه، بل بدل سيئاته حسنات، فيا لهذا الفضل! وما أعظم هذا الرب سبحانه وتعالى! ما الذي أهبط الأبوين من الجنة؛ دار اللذة والنعيم؟! هذه بداية الحياة! سبب الخروج من الجنة: المعصية.

ما الذي أهبط الأبوين من الجنة؛ دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور، إلى دار الآلام، والأحزان، والمصائب، إلا المعصية، أي: بأكل اللقمة من الشجرة التي نهى الله عز وجل عنها، قال عز وجل: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٣٥] فتركوا كل الذي في الجنة، وأكلوا من الشجرة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:١١٨ - ١١٩] وكان في نعيم الجنة -أيها الإخوة- ما يشفي ويكفي؛ لكن المكر والتضليل الذي قام به إبليس مع أبينا آدم حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، والذي لا زال يقوم به مع ذريته إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة.

فما من شر، وما من معصية يقوم بها إنسان إلا وللشيطان فيها دور، فهو الذي يزين المعصية، وإلا لو نظر الإنسان إلى المعصية بمنظار الشرع والعقل لوجدها قبيحة، فالزنا والربا وقتل النفس قبيح، وجميع المعاصي، والخمور والمخدرات قبيحة؛ ولكن ما الذي يجعل الناس يقعون فيها؟ إنه تزيين الشيطان، يجعل عليها مسحة من اللون والطعم، فيجد الإنسان للمعصية لذة، وللجريمة منظراً؛ ولكن لو نظر إليها حقيقة لوجد أنها عار، فالزنا عار، ودمار، وشنار، وفضيحة -والعياذ بالله- ومرض، وإيدز، وهربز، وأمراض خطيرة، وهتك للعرض ماذا فيه أيها الإخوة؟! في الجاهلية قبل الإسلام كان العقلاء والفضلاء من الناس يترفعون عنه، فـ هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، أم معاوية لما جاءت تبايع، ومدت يدها للنبي صلى الله عليه وسلم، والرسول لا يمد يده للنساء، قال: (أبايعكِ على ألا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، فبايعت، ولما قال: ولا تزني، كفَّت يدها، وقالت: يا رسول الله! أوَتَزْني الحرة؟!) أي: التي عندها دم، وعرض، وعقل تزني؟! هذا شيء مستغرب! ومستبعد! هذا في الجاهلية قبل الإسلام.

وجاء الإسلام ليؤكد هذه المعاني، وليعمق ويجذر هذه المفاهيم في نفوس الرجال والنساء حتى يجعل جريمة الزنا فاحشة، يقول الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:٣٢].

وإنك لتعجب -أيها الأخ- حينما تنظر فتجد كثيراًَ من الأمة يحرصون على الزنا والله يقول: {وَلا تَقْرَبُوا} [الإسراء:٣٢] لم يقل: لا تزنوا، بل: (وَلا تَقْرَبُوا) الطرق التي توصل إلى الزنا ممنوعة ومحرمة.

فما الذي يجعل الناس يقعون فيها؟! إنه الشيطان، كما أوقع آدم وجاء إليه من باب المكر والخداع، وقال له: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه:١٢٠] وهي شجرة ماذا؟ شجرة الخروج، وليست شجرة الخلد؛ لأن الشيطان يعكس المفاهيم، ويقلب الحقائق، ويجعل الأسود أبيض، والليل نهاراًَ، والحق باطلاً، والباطل حقاً، والزنا علاقات جنسية، من الذي سماه بهذا؟ الشيطان، فهم لا يقولون: زنا؛ لأن (زنا) كلمة تنفر منها النفوس؛ ولكن يقولون: قضايا جنسية، أي: علاقات.

ويجعل الربا الذي هو من السبع الموبقات، والذي أذن الله بحرب صاحبه، يقولون: هذه فوائد، وعمولة، ولا يقولون: نعطيك ربا، بل يقولون: نعطيك عمولة، وهو ربا؛ ولكن من باب تمرير الباطل عن طريق تغيير المسمى، ويجعلون العُهْر، والعُرْي، والفضيحة، والتفسخ فَناً، وهو عفن، فيسمونه: فنوناً، وهو عفن وجنون والعياذ بالله! ويجعلون السحر، والشعوذة، والكهانة، ألعاباً بهلوانية، (وسيرك).

ويجعلون الخمر أم الخبائث التي إذا وقع فيها الإنسان؛ فإنه يكون مستعداً لأن يزني، وأن يقتل، ويفعل كل جريمة؛ لأنها تذهب عقله، فيقولون: مشروبات روحية، لا إله إلا الله! مشروبات روحية؟! هل شراب الروح من هذه الخبائث؟! بل مشروبات شيطانية، وقذرة، ولعينة، ونجسة، فقد سماها الله: رِجْساً: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:٩٠] والرجس في كلام العرب هو: الركس، أي: العذرة التي يضعها الإنسان؛ لكن تُقَدَّم الآن في بلاد المسلمين.

-والحمد لله لا نزال سالمين؛ ولكن في بلاد كثير من المسلمين في غير هذه البلاد- تُقَدَّم في المطاعم، والفنادق، والأسواق، والمطارات، والذي لا يشرب يسمونه: متخلفاً، فدليل التحضر عندهم والرقي أن تشرب الخمر، والناظم يقول:

واترك الخمرة إن كنت فتىً كيف يسعى في جنونٍ مَن عَقَلْ