للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إغراق قوم نوح]

االذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رءوس الجبال في عهد نوح عليه السلام.

نوح نبي بعثه الله عز وجل من أجل إزالة الشرك من الأرض، إذ كان الناس منذ آدم إلى عهد نوح على التوحيد، أي: لا يوجد شرك.

وسبب إرسال الله لنوح: أنه كان هناك أناسٌ صالحون طيبون فلما ماتوا، والذين بعدهم قالوا: نريد أن نصورهم، لماذا؟ قالوا: من أجل أن نتذكرهم، فنعبد الله مثلهم؛ فصوروهم، وعبدوا الله كلما تذكروهم.

ثم جاء جيل جديد، ومات الجيل الأول، فقالوا: آباؤنا ما صوروهم إلا لأنهم صالحون، إذاً: ماذا نفعل؟ قالوا: نعبدهم.

فعبدوهم.

فبعث الله نوحاً عليه السلام ليصحح مسار البشرية في التوحيد، ولكن كذَّبوا، وعاندوا عناداً مريراً، رغم طول المدة في الدعوة، ألف سنة إلا خمسين عاماً من الدعوة المتواصلة ليلاً ونهاراً، ليست ندوة أسبوعية أو شهرية، ثم إنها بكل الأساليب، سراً وجهاراً، ودعوة فردية وجماعية، وبكل أساليب الدعوة، ومع هذا كلما قام يحدث فيهم {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:٧] فيستمر يحدّث فلا يطيقون حتى رؤيته، فيغطون وجوههم وهو يتكلم، {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:٥] * {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} [نوح:٥ - ٨] يعني: علناً، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:٩ - ١٠] وذكرهم بأيام الله وبما عندهم من النعم {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح:١١ - ١٦] إلى آخر الآيات.

ولما كَذَّبوا ماذا حدث؟! يصبر أيضاً، ولا يستعجل بالعقوبة حتى يأتي الخبر من الله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:٣٦] كم آمَن؟ قال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠] وفي أصح الروايات أنهم: اثنا عشر رجلاً، جهد (٩٥٠) سنة، وهذا فيه إشارة إلى الدعاة بألا يستعجلوا، اصبر على من تدعوه، والهداية بيد الله، ولا تحاول أن تُكَثِّر، فلو هدى الله على يديك واحداً خير لك من حُمُر النَّعم، وتبعث يوم القيامة مبعث الأنبياء.

وبعد ذلك لما عرف نوح عليه السلام أنه لن يؤمن أحد بعد هذا، والله أخبره أنهم إذا ولدوا لا يلدون إلا فاجراً كفاراً، دعا وقال: ربِّ إِنِّي {مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:١٠] فقط، ولم يحدد عليه السلام وسيلة الانتصار من الله، قال: أنا مغلوب، بذلتُ كل جهدي، ومارستُ كل أسلوب، وما دام أنه لا يوجد أحد يسلم ويجيب، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:٢٦ - ٢٧] أي: الذين عندي هؤلاء الاثني عشر، يردونهم مثلهم: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:٢٧].

وأمر الله سبحانه وتعالى نوحاً أن يصنع له سفينة، وكانوا يعيشون في الصحراء: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:٣٨]: ما هذه يا نوح؟! قال: هذه سفينة، قالوا: ما تفعل بالسفينة؟! السفينة يصنعها الناس عند البحار! وأنت في الصحراء تصنع سفينة؟! وبدءوا يضحكون عليه، ويسخرون منه، ويقولون: تعالوا انظروا هذا النبي، هذا الرجل المجنون، يصنع سفينة من أجل أن ينجو فيها، ولا يوجد ماء؛ ولكنه كان ثابتاً، قال: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:٣٨] ماذا قال؟ {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:٣٨] وبعد فسوف تعلمون من هو الذي يُضحك عليه.

ولما اكتملت السفينة، قال الله له: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [هود:٤٠] أي: أرْكِب فيها {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنَيْن} [هود:٤٠] أي: مِن كل خليقة الله اثنين اثنين، وقوله: {وَأَهْلَكَ} [هود:٤٠] أهلك هنا أي: الذين آمنوا من قومك وقوله: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} [هود:٤٠] أي: احمل في هذه السفينة من جميع المخلوقات؛ لأن الله أجرى تدميراً كاملاً لكل الكائنات الحية؛ إلا من ركب في السفينة من جميع الحيوانات، والطيور، والبهائم، والهوام، والوحوش، {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:٤٠] أي: ذكراً وأنثى؛ من أجل أن يستمر التناسل.

ولما ركبوا جاء المطر كيف جاء المطر؟! قال الله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:١١] والأرض! قال: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ} [القمر:١٢] ماء السماء على ماء الأرض، حتى التنور الذي ما يُتَوَقَّع أن يكون فيه ماء؛ لأن فيه نار، قال الله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:٤٠] التنور الذي فيه نار صار ماءً.

وعلا الماء رءوس الجبال، وأسرعوا يصعدون الجبال هرباً من الفيضان والطوفان، وكان من ضمن من صعد الجبل ولد نوح، وتذكرَ نوح وعدَ الله: {وَأَهْلَكَ} [هود:٤٠] قال: يا ولدي! {ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:٤٢] فرفض: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:٤٣] فغَرِق، وحينما شارف على الغرق دعا نوح: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:٤٥] أنت قلتَ: أرْكِب أهلَكَ، وهذا ولدي من أهلي، أي: لا تغرقه يا رب! دعه يحيا -أي: لا يغرق ولو لم يركب- قال الله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:٤٦] هذا ليس من أهلك، الأهل هنا: أهل الدين، أهل العقيدة: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:٤٦] وغرق، وغرقت البشرية كلها إلا مَن ركب مع نوح عليه السلام.

وكانت تجري وتقف إذا قال: باسم الله جرت {مَجْرَاهَا} [هود:٤١] وإذا قال: باسم الله وقفت: {وَمُرْسَاهَا} [هود:٤١] أي: مرساها باسم الله، ومجراها باسم الله.

إلى أن جاءت إلى الجودي -الجبل- فأرساها الله سبحانه وتعالى بجانبه، ونزل نوح ومن معه، وبدأت البشرية طَوراً جديداً من أطوار الحياة بعد أن طهر الله الأرض من الشرك، والأرجاس، والأصنام، والأوثان.