للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة العقلية على أن الحياة لحكمة]

ثم نأتي بالنظر العقلي فنجد ونشاهد ونلمس أن الإحكام والدقة والتنظيم والتقدير والتدبير يشمل الكون من أصغر جزء في المادة وهي الذرة إلى أعظم جزء في المادة وهي المجرة! كل شيء بتنظيم! وكل شيء محكم: ليل ونهار، أفلاك وشموس، أقمار وأنجم، أزهار وأشجار، أنهار وبحار، كل ما في الكون يشهد من أصغر جزء فيه إلى أكبر جزء بأن له خالقاً:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

أولاً: هل يعقل أن يكون هذا التنظيم كله عبثاً وصدفة؟ وكما يقولون: قانون الصدفة: قانون يعمل ولكن في حدود.

يقول أحد العقلاء: لو أن رجلاً على سطح بيت وضع تحت السطح لوحاً خشبياً، وقذف من يده بمائة إبرة خياطة، فصدفة وقعت إبرة من هذه الإبر على رأسها، ألا يمكن أن يحصل هذا؟ نعم يحصل بالصدفة، ثم بعد ذلك أتى بألف إبرة ثانية ورماها مرة ثانية على هذا اللوح الخشبي، فصدفة وقعت إبرة من هذه الإبر الألف في خرق الإبرة الواقفة تلك، هذا ممكن وصدفة، ولكن متى؟ قالوا: إذا قذف عشرة ملايين إبرة يمكن أن تأتي واحدة في خرق تلك الإبرة التي وقفت سابقاً، قالوا: ثم جاء ورمى بعد ذلك بألفين، وجاءت واحدة ووقعت في خرق الإبرة الثانية الواقفة تلك، قالوا: هذا مستحيل، مستحيل أن تصل المسألة إلى هذا الكلام، الصدفة لها حدود، وغير مطردة! ومثال آخر: حروف المطبعة التي تصف في المطابع، طبعاً يأتي الذي يصف الحروف فيأتي ويضع (بسم الله الرحمن الرحيم) الباء والسين والميم ولفظ الجلالة من أجل أن يطبعها بعد ذلك، ويدخلها في القالب وتنطبع، فلو جاء آخر وقال: أنا سأعمل كتاباً، وأتى بالحروف من غير صف بل خبطها وأدخلها المطبعة، وأصبحت لوحة مكتوبة، يقول: يمكن أن يأتي مع الصدفة كلمة مكونة من أربعة حروف! يمكن أن تأتي كملة: سعيد، صدفة يأتي السين مع العين والياء والدال، لكن هل ممكن أن يأتي سعيد بن مسفر بالصدفة في هذه الحروف؟ قالوا: مستحيل، حسناً يأتي سعيد بن مسفر بن مفرح القحطاني؟ قالوا: هذا لا يمكن.

حسناً هل يمكن أن تطبع لك المطبعة بهذا الصف الفوضوي العشوائي صفحةً مطبوعةً بموضوع معين، وبرقم معين، وبأفكار متسلسلة، وبتنظيم معين، هل يمكن هذا؟ طبعاً مستحيل!! ثانياً: هذا الكون البديع وهذا التنظيم المتقن، ولا نذهب بعيداً بل الإنسان نفسه، يقول الله عز وجل فيه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] الذي خلقك وقدرك وأعطاك هذه الهيئة وهذا القدر من الإحكام والتنظيم في كل جزئية من جزئياتك، أيكون هذا الخلق عبثاً وصدفة؟ لا.

هذا الرأس لوحده الذي جعله الله عز وجل قمة الجسد وركب فيه جميع الحواس: العينان في المقدمة، والأذنان في الجانبين، والأنف والفم في وسط الوجه، فالعينان تفرزان مادة ملحية، والأذنان مادة صمغية مُرَّة، والأنف تفرز مادة مخاطية، والفم يفرز مادة لعابية، من ملّح هذه، وأمرّ هذه وحلى هذه؟ والمصدر واحد؟!! ولماذا هذا ملح وهذا مر وهذا حلو؟ الملح؛ لأن العين شحمة ولو لم يوجد الملح لتعفنت ولظهر فيها الدود! وهذه الأذن جعل الله فيها مرارة؛ لأنها مفتوحة، ولو لم تكن هذه المادة الصمغية المرة موجودة لدخلت فيها الحشرات وأنت نائم، فقد تأتي الصراصير والجرذان والقمل وتملأ مسامعك، لكن الله جعل هذه المادة حتى تهرب أي حشرة تقترب من أذنك، وهذا الفم جعل الله فيه غدداً لعابية تفرز هذا اللعاب الذي هو أحلى من العسل! من حلَّاه؟ ثم لماذا يفرز هذه المادة؟ من أجل المساعدة على عملية تحضير الطعام وتجهيزه للجسم، ثم خلق الله في هذا الفم ورشة مصغرة لتجهيز الطعام، ومكونة من عدة آلات: آلات تقطع وأخرى تخرق وتطحن؛ الثنايا تقطع، والأنياب تخرق، والأضراس تطحن، وجعل الله فوق الضرس ضرساً وفوق الثنية ثنية، وفوق الناب ناباً، وبعد ذلك قدم الفك من أجل أن يقطع مثل المقص؛ لا بد أن يركب في الآخر؛ لأنه لو كان فوق بعض ما قطع، وجعل بين الأسنان جهازاً مثل (الكريك) يقلب الطعام وهو اللسان، وبعد ذلك يجهز الطعام ثم يمضغ ثم ينزل.

فيستقبل هذا الطعام قناة اسمها المريء: والمريء يوصل إلى المعدة، وبجانب هذه القناة قناة أخرى اسمها البلعوم.

المريء قناة عضلية، والبلعوم قناة غضروفية مفتوحة باستمرار؛ لأنها تقوم بإيصال الهواء إلى الرئتين، أما تلك فتوصل الطعام إلى المعدة فهي عضلية تسمح بنزول الطعام ولا تسمح بخروجه؛ من حين أن تنزل اللقمة تقوم تلك العضلة بعصرها إلى أن تنزلها إلى المعدة، ولولا وجود هذه العضلة لاحتجت مع كل لقمة إلى سيخ من حديد حتى تصل إلى بطنك، وإلا فمن سيقوم بإنزالها؟! وبين الماسورتين: ماسورة المريء وماسورة البلعوم، لحمة صغيرة يسمونها في الطب: لسان المزمار، ويسميها الناس باللسان العامي: اللهى أو الطراع.

وظيفتها أنها تتلقى إشارات من المخ إذا دخل الطعام بأن تقفل قصبة الهواء، وإذا تكلم تقفل قصبة الطعام؛ لأنه لو تكلم الإنسان وهو يأكل أو يشرب ودخلت حبة من الأرز أو قطرة من الماء في قصبة الهواء لمات الإنسان، وهو الذي نسميه الآن شرقه، بعض الناس يتكلم وهو يأكل، فيصدر أمر من المخ إلى هذا أن انفتح وإلى هذا أن انفتح فيبقى الجندي مسكين لا يدري من يفتح، هذا أم هذا؟ فتسقط حبة في قصبة الهواء، فماذا يحصل؟ هل يموت الإنسان من أجل غلطة بسيطة؟ لا.

تصدر الأوامر إلى القوات التي في القصبة أن هناك جسماً غريباً فاطردوه، فيقوم الإنسان يتنحنح، حتى يخرج هذه الحبة، وتبدأ عينه تغرورق بالدمع ماذا هناك؟! يقول: كدت أموت من أجل حبة أو قطرة.

هذا هو الإنسان! أليس هذا إحكام أيها الإخوة؟! ولن نذهب بعيداً في الكون ولكن فقط في الإنسان، ولهذا أكثر الناس إيماناً هم العلماء والأطباء؛ لأنهم يرون أجهزة سمعية وبصرية وتنفسية وتناسلية ودموية وأجهزة لا يعلمها إلا الله.

فيك أيها الإنسان جهازان مركبان في الظهر وهما الكليتان، ومهمتها تصفية الدم، فهي مثل الصفاية التي تصفي البنزين في السيارة، في كل كلية ثلاثة ملايين وحدة تنقية، وقد خلق الله تعالى اثنتين، رغم أن الواحد يعيش بواحدة، لكن الله تعالى خلق اثنتين حتى إذا تعطلت واحدة تبقى معك واحدة ثانية، أو يكون لك حبيب ويصير عنده فشل كلوي فتعطيه واحدة.

وما كان الناس يميزون هذا في الماضي، وبعد ذلك خلق الله تعالى رئتين وعينين وأذنين.

وجعل الله من كل عضو نافع اثنين ومن كل عضو ضار واحداً، كاللسان كم لساناً مع الإنسان؟ لسان واحد، وليت الإنسان يسلم من لسانه، فكيف لو كان معك لسانان، والفرج واحد! فكيف لو كان معك فرجان؟! الأذنان اثنتان فإذا تعطلت إذن فالأخرى تعمل، بعض الناس عنده أذن لا تسمع، ولا يسمع إلا بواحدة، وتملك عينين فإذا عميت واحدة ترى بالثانية، ويدين إذا قطعت واحدة تستعمل الثانية، وعندك رجلان ورئتان وكليتان وهكذا، إلا عضو واحد نافع وجعله الله واحداً وليس اثنين وهو القلب، قال الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:٤] لماذا؟ لأن القلب ملك الجوارح، ولا يمكن أن يكون في البلد الواحد ملكان، وإذا كان معك قلبان أحدهما يريد يذهب ليداوم، والآخر يريد أن ينام، من تطيع؟ لا يوجد إلا قلب واحد يعمل، رغم أنه نافع، لكنه قلب يعمل لا يمرض! وقد ترون كل الأعضاء تمرض وتتضرر لكن أقل الأعضاء مرضاً أو تعرضاً للأمراض هو القلب، وإلا فهو يعمل عملاً مضنياً، فهو مضخة تضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسد، وتعطي هذا الضخ حركة في كل دقيقة ثمانين مرة، فتصور جهاز يشتغل مدى حياتك ولا يتعطل! أربعة وعشرين ساعة يعمل وأنت نائم وقائم وجالس وتمشي ثم جعل الله عضلة القلب عضلة لا إرادية، -أي: تشتغل بدون اختيارك- ولو أن الله جعل عضلة القلب إرادية بحيث إنه من أراد أن يعيش فليشغل قلبه، ومن أراد ألا يعيش فليوقفه، أكان الناس يشتغلون بغير قلوبهم؟!! لن يبقى أحد إلا وهو مشغول بعملية ضخ قلبه، حتى لو جاء لينام، يقول لامرأته: تعالي وحركي قلبي، أنا أريد أن أنام قليلاً، وانتبهي لا تغفلي فأنا سأموت إذا غفلت، فتنشغل بضخ الدم في قلبه قليلاً، ثم تقول له: تعال.

أنا أريد أن أنام تعال حرك قلبي! لكنك نائم وهي نائمة والقلب ينبض، ثمانين ضخة في كل دقيقة وهو ينبض، يضخ الدماء ليذهب بها إلى الجسد، هذه جزئية ولمحة بسيطة من قدرة الله في خلقك أيها الإنسان.

نعم أيكون هذا الخلق عبثاً؟!! لا.

فبطل -أيها الإخوة- بالنظر العقلي كما بطل بالدليل الشرعي أن الإنسان والكون والحياة خلقت عبثاً، ولم يبق لنا إلا الاحتمال الثاني، وهو: أن الله خلق الكون والحياة والإنسان لحكمة، ولم يدع الله الناس في تيه، بل وضح لهم الحكمة، فإنه أعلم بما خلق، يقول الله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤] هو الذي خلق الإنسان، فأعرف الناس بالصنعة صانعها.

فخالقك وصانعك هو الله، وهو الذي صنعك ويدري لماذا صنعك، فبين لنا في كتابه في سورة الذاريات وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] فهذا هو الغرض، وهذه هي الحكمة، لا يوجد حكمة من وراء خلق الناس إلا هذه الحكمة؛ لأنها محصورة بين (ما) و (إلا) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] ما: نافيه أم مثبتة؟ تقول: نافية: ما في المسجد إلا زيد، يعني: لا تجد معه عمرو، والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] يعني: لا يوجد عمل لهم غير العبادة، لكن ما هو مفهوم العبادة في الإسلام أيها الإخوة؟