للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حامل القرآن وسؤال الناس]

قيل: دخل سالم بن عبد الله بن عمر الكعبة فلحقه أحد خلفاء بني أمية وهو داخل الكعبة، فقال له: هل من حاجة يا أبا عبد الله؟! قال: إني أستحي أن أسأل غير الله وأنا في بيته! فسكت عنه، فلما طاف بالبيت وخرج من البيت لحقه، فقال: يا أبا عبد الله! هل لك من حاجة، ها قد خرجت من بيت الله؟ تريد شيئاً قال: أمِن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا أما حوائج الآخرة فليس عندنا، قال: والله ما طلبت الدنيا ممن يملكها وهو الله، أفأطلبها منك وأنت لا تملك منها شيئاً فخجل الأمير خجلاً وتركه وولى.

وكان الفضيل بن عياض رضي الله عنه في ليلة من الليالي في بيته، فخرج هارون الرشيد وقال لـ يحيى البرمكي وزيره: اذهب بي إلى عالم من أهل العلم يلين قلبي، فدخل به إلى عالم من العلماء فوعظه وأعطاه مالاً وأخذه ومشى، ثم ذهب إلى آخر فوعظه فأعطاه، ثم أتيا الفضيل فسلما عليه، فرأى يد أمير المؤمنين رطبة، فقال الفضيل: ما أرطب هذه اليد إذا نجت من النار يوم القيامة ثم قال له: عظني فوعظه حتى بكى الخليفة، فقال وزيره: أشفق على أمير المؤمنين، فقال الفضيل: أتقتلونه وأنا أشفق عليه؟! فقال الخليفة: اسكت يا يحيى فسكت! فوعظه ثم وعظه حتى أنه كاد يموت من البكاء، يقول: ثم أعطاه عشرة آلاف درهم فردها إليه وقال: ندله على النجاة، ويدلنا على النار، فتهلل وجه الخليفة من الفضيل وانصرف وهو يثني عليه.

يقول الفضيل بن عياض: لا ينبغي لحامل القرآن أن يكون له حاجة إلى أحدٍ غير الله.

يقول الشاعر:

الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب

لا تسألن بُني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تغلق

اسأل ربك في كل شيء، والله عز وجل ينزّل عليك كل شيء، وخذ بالأسباب والدعاء، وإذا أردت أن تنجح ادع الله وذاكر وهكذا، إذا أردت أن تتوظف اطلب الله في الليل، ولكن في الصباح اذهب وتقدم إلى ديوان الخدمة المدنية، أو على أي مؤسسة حكومية، وإذا أردت زوجة اطلب الله واذهب وابحث واخطب، خذ بالأسباب ولا تجلس وتعطل الأسباب وتقول: إني أدعو الله.

وهنا مثال: يذكر أن رجلاً مسكيناً ضاقت عليه سبل الرزق، فكان يذهب كل يوم يبحث عن رزق فلا يجد شيئاً، ولكن الله لا يضيعه فيرسل إليه الرزق، وفي يوم من الأيام لقيه أحد التجار الأثرياء فقال له: أين تعمل؟ قال: ليس عندي عمل، فقال له: من أين تأكل؟ قال له: أبحث عن الرزق فلم أجده، ولكن الله لم يتركني فيرسل إلي رزقاً من عنده! قال له: من أين يأتيك؟ هل ينزل إليك من السماء كيس فيه بر وسمن وعسل؟ قال: الله عَزَّ وَجَلَ على كل شيء قدير، فسخر منه وتوعده وتركه، وبعد يومين عاد إليه التاجر، وقال له: عندي لك شغل، فقال له: نعم، فأدخله التاجر إلى مزرعته وفي المزرعة بئر ليس فيها ماء، وقال له: لقد ضاعت عليَّ صرة في هذه البئر فيها نقود، فلم أستطع إخراجها فأريد أن تنزل في هذه البئر وتأخذ الصرة وتأخذ منها أجرتك، فوافق الرجل.

فأخذ التاجر الحبل وربطه فيه وأنزله إلى البئر، فعندما وصل إلى البئر رمى التاجر بالحبل، وقال له: اجلس مكانك حتى يأتيك من السماء كيس فيه بر وسمن وعسل -من باب النكاية والاستهزاء به- فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وذهب التاجر وعاد إلى دكانه، وكان هذا التاجر شديد البخل، وعنده مخازن من الطعام، والمفتاح في جيبه يخرج طعام كل يوم في يومه، ويخرج لامرأته قليلاً من الطحين، وقليلاً من السمن، وقليلاً من اللحم، فكانت المرأة إذا أعطاها شيئاً ادخرت منه شيئاً يسيراً للأيام الطارئة إذا نزل عليهم ضيف، أو يكون غير موجود، فكانت خلال مجموعة من الأيام قد وفّرت كميةً من الدقيق والعسل والسمن، وفي ذلك اليوم الذي جاء التاجر بالعامل وأدخله في البئر تذكرت هي وخادمتها أنها جائعة، فصنعت البر والسمن والعسل، ولكن التاجر طرق الباب والطعام جاهز وهن يأكلن، وإذ بالتاجر يدخل البيت يريد غرضاً، فقالت المرأة: إذا دخل ورأى الأكل فسيذبحنا واحدة تلو الأخرى، فسيقول: من أين سرقتموه؟ فقالت الخادمة: أين نذهب به؟ فقالت المرأة: ضعيه في كيس واربطيه بحبل وأنزليه في البئر إلى أن يخرج فنأتي به ونأكله، قالت الخادمة: نعم.

فأتت بكيس ووضعت فيه السمن والبر والعسل، وربطته بحبل وأنزلته إلى البئر وإذا بالرجل جالساً يذكر الله، فلم يشعر إلا والكيس على رأسه، فنظر إليه وإذا بالكيس فيه السمن والعسل والبر، ثم أخذه فأكله وجلس يذكر الله إلى المغرب، فأتى التاجر قبل غروب الشمس وقال للرجل في البئر: هل أتاك البر والسمن والعسل، قال: نعم والله، أتاني كيس فيه بر وسمن وعسل.

فأنزل له حبلاً وقال له: اربط نفسك واصعد؛ فربط نفسه وصعد، وقال الرجل وعليه أثر السمن: الحمد الله لقد شبعت، فقال التاجر: هذا أمر عجيب!! ثم ذهب التاجر إلى زوجته فقال لها: من الذي ترك السمن والبر والعسل في البئر؟ فقالت المرأة: لا تذبحنا نحن نقر لك بالخبر، أنت كلما أعطيتنا طعام يوم أبقينا منه شيئاً حتى إذا أتى إلينا ضيف أو حصل أمر طارئ جمعناه وإذا بنا نأكل منه، فبينما نحن نأكل أتيت علينا فتركناه في البئر وإذا بالجن قد أكلوه، فعلم الرجل وقال: آمنت بالله.

إن التوكل والاعتماد على الله عظيم، ولكن مع الأخذ بالأسباب، فلا تأخذوا كلامي هذا وتجلسوا في البيوت وتقولون: إن كل واحد منا يأتيه بر وسمن وعسل، وإنما خذوا بالأسباب والله هو الرزاق ذو القوة المتين.

فالرجل كان يمشي ويعرض نفسه على الناس، لهذا لما عرض عليه التاجر العمل لم يتردد، ولم يقل: إنه سيأتيني كيس، وإنما قال: أذهب وأشتغل.