للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ظلم العبد لنفسه]

ظلم العبد لنفسه: أن يرد بها المعاصي، ويتعدى بها الحدود؛ والله يقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:١] إذا تعديت حدود الله ببصرك فنظرت به إلى الحرام فقد ظلمت نفسك، وإذا تعديت حدود الله بأذنك فسمعت بها الحرام من الغناء أو الكذب أو الغيبة أو النميمة فقد تعديت حدود الله وظلمت نفسك، وإذا تكلمت بلسانك كلاماً يسخط الله فقد ظلمت نفسك، وإذا بطشت بيدك أو مددتها على ما لا يحل فقد ظلمت نفسك.

وقد تقول كيف ظلمت نفسي؟ أقول لك: إن هذه الجوارح التي هي ملك يمينك، وفي قبضتك، ورهن طاعتك؛ في يوم القيامة تشهد عليك، يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:١٩] عجيبةٌ هذه الكلمة! فهي تهز نياط القلوب، تأمل كيف يصف الله هؤلاء الناس بأنهم أعداؤه! ومن كان عدواً لله فويل له ثم ويل له من عداوة الله، من ينصره على الله، وهو الذي بيده مقاليد كل شيء؟ خلقك، ورزقك، ودبَّرك، ثم كلَّفك، ثم أمهلك، ثم هو يدعوك ليقبضك، فكيف ترد عليه وهو عدوك؟ إذا وردت على عدو قادر عليك فكيف يكون وضعك؟! قال الله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:١٩] أي: يجمع أولهم على آخرهم، كما تجمع الغنم إذا أدخلتها في زريبتها.

{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} [فصلت:٢٠] أذنك التي تَسرها بالأغاني تشهد عليك يوم القيامة، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} [فصلت:٢٠] عينك هذه التي تمتعها بالنظر إلى الجميلات تعذبك يوم القيامة وتكون ضدك {وَجُلُودُهُمْ} [فصلت:٢٠] يعني: تشهد عليك جميع جوارحك {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:٢٠].

فيستغرب أعداء الله في هذا الموقف، ويستنكرون هذا التصرف من جوارحهم، ويقولون لها: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت:٢١]، نحن مارسنا الذنوب، وسرنا في المعاصي من أجلكم، ومن أجل تلبية رغباتكم سمعت الغناء لأمتعك أيتها الأذن! ونظرتُ إلى الحرام لأمتعك أيتها العين، وسرت في الزنا لأمتعك أيها الفرج! فلم شهدتم علينا؟ والجوارح مأمورة لا تملك شيئاً، فمن أنطق هذه اللحمة ينطق هذه الشحمة، قال عز وجل: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:٢١] لا نملك من أمرنا شيئاً، {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:٢١ - ٢٢] أي: ما كنتم تستطيعون أن تمارسوا العظائم والذنوب والمعاصي مستترين عن جوارحكم هل يستطيع الإنسان أن يعصي وينظر إلى الحرام بغير عينه؟ لا.

وهل يسمع الحرام بغير أذنه؟ لا.

هل يستطيع أن يعصي بجسم آخر؟ لا.

فهم شهود عدول حضروا الواقعة ليس فيهم جرح أبداً {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:٢٢] هذا هو السبب.

غابت عنكم مراقبة الله وكنتم تستخفون من الناس ولا تستخفون من الله، تخجلون من الناس ولا تخجلون من الله، إن الزاني إذا انفرد بالزانية ثم علم أن هناك طفلاً عمره سنتان ينظر إليه لا تجرأ على الزنا يستحي ويخاف من مخلوق وينسى الله ونظره إليه، وظن بالله أنه لا يعلم بحاله وأفعاله، قال الله: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} [فصلت:٢٢ - ٢٣] هذه العقيدة الفاسدة، وهذا التصور الممسوخ أنك لست تحت رقابة إلهية {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:٢٣ - ٢٤] ظلمك لنفسك أن توردها المعاصي، فلا تظلم نفسك بل انجُ بنفسك، وتذكر أن عينك اليوم هي عينك لكنها غداً عدوك، وأذنك اليوم هي أذنك ولكنها غداً تبرز هناك تشهد عليك وتكون عدوك.

هل الأسلم لك أن تنجو بنفسك من عذاب الله، أو أن تستمر كالدابة التي تساق إلى حتفها بظلفها وهي لا تدري؟ تهلك نفسك بسماع الغناء، والنظر إلى الحرام وأكله، والبطش بالحرام والسعي إليه، وترك الطاعات، ثم تندم ولكن حين لا ينفع الندم.

هذا هو الظلم الثاني.