للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إعمار الباطن بالتقوى والمراقبة]

ثانياً: وعمر باطنه بالتقوى والمراقبة: ما معنى هذا؟ معناه: أن يستشعر الإنسان مراقبة الله له في كل وقت وحين، وأن يشعر بأنه واقع تحت الرصد الرباني، والنظر الإلهي، وأنه لا يخفى على الله منه خافية، وأن الله معه في الليل والنهار، والسر والجهار، وأن الله يرصد ويسجل عليه كل عمل، يقول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:٧] كل شيء تعمله مكتوب عليك فلا تظنن أنك مفلت أبداً:

وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:١٠٨] الله معك وأنت تعمل هذا، والله يراقبك ويراك وينظر إليك، فإذا أحسست بهذا الشعور، وتعمق عندك هذا المعنى، فهل يمكن أن تعصيه وأنت تعلم أنه يراك؟ أبداً! فمن الذي يعصي؟ الذي غاب قلبه عن الله، وشعر أن الله لا يراه، أما من يشعر أن الله يراه ينتهي بسرعة، ولا يفعل معصية، فالحديث الذي في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن الرجل الشاب الذي كان يحب بنت عمه كأشد ما يحب الرجال النساء، وبعد ذلك راودها عن نفسها فلم توافق، وبعد ذلك ألجأتها الظروف والحاجة إلى أن تطلبه مبلغاً من المال، فقال لها: لا أعطيك حتى تخلي بيني وبين نفسك، فوافقت تحت وطأة الاضطرار، ولما قعد منها مقعد الرجل من امرأته قالت له: يا هذا اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه.

فقام، لماذا؟ لأنه مؤمن تذكر عظمة الله، فقام وتركها.

هذا العمل جليل وعظيم عند الله، وكان كفيلاً بأن يزحزح الله عنهم الصخرة ويخرجون؛ لأن هذا العمل لا يفعله إلا شخص عنده إيمان مثل الجبال، فتستشعر مراقبة الله عز وجل لك، ولو ما يراك أحد، فأنت تمشي في الشارع وترى امرأة وما يراك أحد، ولكن الله يراك فتغض بصرك.

أنت في غرفة نومك في الليل ومعك المسجل أو الراديو، ومررت على أغنية، وكنت تحبها من أيام الجاهلية، ونفسك الأمارة بالسوء، وشيطانك الغوي يريدك أن تسمع، فلا تسمع؛ لأن الله تعالى يراك.

فإذا أعطيت الراتب وفيه زيادة مائة أو خمسمائة وعددتها مرة ومرتين، وتأكد لك أن هذه زائدة تخرجها وتردها، بإمكانك أن تدخلها في جيبك ولكن الله يعلم أن هذا حرام، وأنت تعلم أن الله يعلم، كيف تقدم على هذا وأنت تعلم أن الله يعلم؟ لا يمكن؛ لأنه توجد مراقبة في قلبه.

والمراقبة في قلبك تجعلك كبيراً، لا يمكن أبداً أن تقع في معصية لله، ولا أن تترك لله طاعة، لأنك مراقب من الداخل، فالآن عندما يقولون في الخط: السرعة محددة، والخط مراقب بالرادار، فإذا كانت السرعة محددة وجاء من تجاوز هذه السرعة، فإن سيارة المرور تلتقط رقم السيارة عن طريق الرادار، وتبلغ النقطة التالية، والتي بدورها توقف صاحب السيارة، وتلزمه بدفع الغرامة المحددة، فكل واحد منا عينه تتحرى أثناء السير، لماذا؟ لأن الخط مراقب.

وطرق الله -يا إخوان- أما فيها مراقبة؟ بلى فيها مراقبة {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:٧] فالله معك، لماذا لا تستشعر مراقبة الله؟ وبعد ذلك لا يمكن أن تفلت من قبضة الله، يمكن أن تفلت من قبضة سيارة المرور، يمكن جندي المرور أن يعفو عنك، يمكن لا توجد سيارة في الخط، أما هنا أبداً يسمع الله عز وجل دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، يعلم السر وما هو أخفى من السر، فلا يخفى على الله شيء، ولهذا قال رحمه الله: وعمر باطنه، أي جعل في باطنه عمارة، مبنى عظيم من المراقبة والخوف من الله، والاستشعار بعظمة الله، وعَمَر باطنه بالتقوى والمراقبة.