للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة تزاور أرواح الموتى، ومعرفتهم بأحوال الأحياء]

هل يمكن أن يسمع الإنسان في اليقظة أو يرى نعيماً أو عذاباً؟ سمعتم ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، أما السؤال الثاني، فهل تتلاقى أرواح الأموات ويتزاورون في قبورهم؟ أو يعرفون هم في قبورهم شيئاً مما يدور في هذه الدنيا بعد وفاتهم؟ تكلم أهل العلم في هذا كثيراً جداً يقول: ابن عبد البر ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلمٍ يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) فهذا نصٌ واضحٌ في أنه يعرف من يعرفه في الدنيا ويرد عليه السلام.

وثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ متعددة أنه أمر بقتلى بدر بعد انتهاء المعركة فألقوا في قليب -أي: في حفرة- ثم جاء حتى وقف على رءوسهم وناداهم بأسمائهم: (يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! -والصحابة واقفون- هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) قال له عمر: (يا رسول الله! أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟ -أي: صاروا جيفاً قد انتفخت- فقال عليه الصلاة والسلام: والذي بعثني بالحق ما أنتم أسمع لما أقول منهم) يقول هم يسمعون أكثر منكم: (والذي بعثني بالحق ما أنتم أسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا) فهذا نصٌ صريحٌ صحيح في أنهم يسمعون في قبورهم ما يدور في هذه الحياة الدنيا.

وثبت أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين إذا انصرفوا عنه، وقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مررنا على القبور أن نسلم على أهلها سلام من نخاطب فيقول: (قولوا: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) وهذا خطابٌ لمن يسمع ويعقل، إذ لو كانوا لا يسمعون؛ لما كنا نستطيع أن نقول: السلام عليكم وهم لا يسمعون، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة مخاطبة المعدوم أو مخاطبة الجماد، وهذا محال والسلف كلهم مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي ويستبشر به.

يقول ابن القيم رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسين قال حدثني رجل من آل عاصم الجحدري - عاصم الجحدري تابعي من الصالحين- قال: رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته بسنتين، فقلت له: أليس قد مت؟! قال: بلى، قال: فأين أنت؟! قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى أبي بكر المزني فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟! قال: هيهات بليت الأجساد وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟! قال: نعم.

نعلم بها عشية الجمعة كله، ويوم السبت في الليل إلى طلوع الشمس قال: قلت: فكيف ذلك من بين سائر الأيام؟! قال: بفضل يوم الجمعة وعظمته عند الله عز وجل.

وحدثنا محمد بن الحسين أيضاً عن حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع، ومحمد بن واسع رحمة الله تعالى عليه من أعلام التابعين، عالم ربانيٌ حدث عن أنس أي: أدرك أنساً وحدث عنه، وهو ثقة وعابد وصالح، لم يُر ولم يعلم أخشع لله منه، وكان الناس إذا وجدوا في قلوبهم قسوةً جاءوا إليه فنظروا إلى وجهه فتلين قلوبهم لذكر الله، فالرجل تذكر رؤيته بالله من خشوعه وخضوعه وخوفه من الله عز وجل، أوصى رجلاً فقال: [كن ملكاً في الدنيا وملكاً في الآخرة، قال: كيف ذلك؟! قال: ازهد في الدنيا، تكن ملكاً من ملوك الدنيا وأيضاً من ملوك الآخرة]، وكان من كثرة عبادته متواضعاً ومزرياً بنفسه يقول لأصحابه: [والله لو أن للذنوب ريحاً ما جلس إلي أحد]، فمع كثرة عبادته كان يحتقر نفسه، يقول: والله لو أن للذنوب ريحاً ما جلس بجواري أحد؛ لكن نحن اليوم لا إله إلا الله!! الإنسان منا مركب من رأسه إلى قدميه ذنوباً ويقول: أنا أحسن من غيري! فيزكي نفسه، وهذا هو الموت والبلاء.

فهذا من أعبد الناس ويحتقر نفسه ويقول: لو أن هذه الذنوب لها رائحة ما كان يستطيع أحد أن يجلس إليه.

وكان يقول: [إذا أقبل العبد بقلبه على الله أقبل الله بقلوب العباد عليه] وكان يقول: [يكفي من الدعاء مع الخوف والورع العمل اليسير]، يعني: عملك لو كان يسيراً، ولكن عندك ورع وخوف وزهد وأيضاً عندك دعاء ولجوء، فيكفي هذا ليكون سبباً من أسباب النجاة.

وكان شجاعاً واشترك في معركة مع قتيبة بن مسلم في قتال الروم ولما سأل عنه قتيبة قال: ما صنع محمد بن واسع؟ قيل: هو ذاك رافع إصبعه إلى السماء يدعو الله، الناس يقاتلون بقوتهم وهو يقاتل بقوتين، فيقاتل بقوته المادية، وبقوة الله العظيمة، فقال قتيبة بن مسلم: والذي نفسي بيده لتلك الإصبع أعظم عندي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير، يعني: أن هذه الإصبع سبب للنصر بإذن الله أكثر من يد مائة ألف شاب طرير ومائة ألف سيف شهير، وهذا من تمام اعتمادهم رضي الله عنهم على قوة الله عز وجل؛ لأنهم يعلمون حقيقةً أن النصر إنما يكون من الله عز وجل.

قيل لـ محمد بن واسع يوماً: كيف أصبحت؟ قال: [أصبحت قريباً أجلي، بعيداً أملي، سيئاً عملي].

يقول: قريباً أجلي أي: سأموت قريباً، بعيداً أملي، أي أن آمالي طويلة عريضة.

سيئاً عملي، فهذا شعوره وهو يقوم الليل كله، ويكثر من صيام الدهر، لكن إذا سُئلنا نحن كيف أصبحنا؟ نقول: إننا أحسن من غيرنا! طيبة أعمالنا، قريبة آمالنا، بعيدة آجالنا، أي: العكس ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال له الملك ابن المنذر: وقد ولاه القضاء، فاعتذر ثم كرر عليه يريد أن يوليه القضاء فاعتذر قال: والله لتلين الأمر -أي: القضاء- أو لأجلدنك ثلاثمائة سوط، قال: [افعل فإن ذل الدنيا خير من ذل الآخرة]، يقول: اضربني فأنا بالضرب أصير ذليلاً لكن ذلي في الدنيا أهون من أن أكون ذليلاً في الآخرة إذا وليت القضاء ثم لم أعدل؛ لأن القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، فالغالبية في النار، أي: من كل ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة، فمن هو الذي إلى الجنة؟ قاضٍ عرف الحق فحكم به، فهذا الذي إلى الجنة، وقاضٍ عرف الحق ولم يحكم به فإلى النار، وقاضٍ لم يعرف الحق فحكم بغير حق ففي النار ولا حول ولا قوة إلا بالله! فيقول ابن القيم حدثنا محمد بن الحسين عن حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت إلى المقبرة فنقف على القبور ونسلم على أهلها وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات يومٍ: لو صيرت هذا اليوم -يوم الإثنين- قال: [بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها]، وحدثني يقول محمد بن عبد العزيز بن أبان قال حدثنا سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، فقيل له وكيف ذلك؟ قال: بفضل يوم الجمعة، هذا عن من؟ عن سفيان الثوري، وسفيان الثوري هذا إمام من أئمة الدين وتابعيٌ جليل، وإمام من الحفاظ، وسيد من سادات المسلمين، طلب العلم وأكثر منه حتى طلبه على أكثر من ستمائة شيخ، ليس على واحد أو اثنين! طلب العلم وكان لا يذكر له عالِم عنده علمٌ ليس عنده إلا ضرب الأرض إليه وأخذ عنه، وأخذ عنه هو من العلماء أكثر من ألف راوٍ وكان شديد الفطنة، عظيم الذكاء، عظيم الحفظ، يقول: ما استودعت قلبي شيئاً فخانني، أي: ما استودعت في قلبي شيئاً من العلوم ثم احتجت إليه فخانني، بل بمجرد ما أطلبه يأتي به القلب؛ لأنه كالمسجل، وكان عابداً زاهداً ورعاً تقياً، يقول عنه سفيان بن عيينة: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري رحمه الله.

وقال عنه الإمام أحمد: سفيان هو الإمام الذي لا يتقدمه أحدٌ في قلبي، وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة حين يزكيان رجلاً فهو الرجل، يقول أحمد: سفيان هو الإمام الذي لا يتقدمه أحدٌ في قلبي، ويقول عنه يوسف بن أسباط: قال لي سفيان بعد صلاة العشاء: ناولني المطهرة لأتوضأ وأنام، قال: فناولته المطهرة فأخذها بيمينه ثم وضع يساره على خده، ثم نمت واستيقظت بعد طلوع الفجر -يقوله يوسف بن أسباط - يقول: وإذا بالمطهرة في يده وهو كما هو منذ أن نمت أول الليل، فقلت له: يا إمام قد طلع الفجر قال لم أزل على هذا الوضع منذ ناولتني المطهرة؛ لأنني تذكرت الآخرة.

يقول: إنه تذكر الآخرة فما أتاه النوم، فجلس وكأن عقله قد سلب منه من قوة التأثر بذكر الله عز وجل، وذكر الدار الآخرة.

يقول سفيان الثوري: من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، ويقول: حدثنا بشر بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبال، يعني: إلى المقابر، فيشهد الصلاة على الجنائز فإذا أمسى وقف على باب المقابر ثم دعا لهم وقال: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم وقبل من محسنكم، ولا يزيد على هذه الكلمات، قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي -يقول هذا الرجل- ولم آتِ المقابر فأدعو لهم كما كنت أدعو قال: فبينما أنا نائمٌ إذا بخلقٍ كثيرٍ قد جاءوني فقلت من أنتم؟ وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقبرة، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك قد عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: قلت فإني أعود ل