للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لجوء المشركين إلى الغمز والضحك على النبي صلى الله عليه وسلم]

ولما لم تنجح تلك الأساليب وهي أساليب إلصاق التهم؛ لأن التهم لا تلصق إلا بصاحبها، الثوب النظيف نظيف، لا يلصق به أي شيء، لكن المتسخ والملوث يمكن أن تلصق به أي شي، أما الثوب النظيف فأي شيء تضعه عليه يظهر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم نظيف في حياته، أنظف مخلوق على وجه الأرض، اختاره الله، كما قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤] يقول عليه الصلاة والسلام: (اختارني الله عز وجل، فأنا خيار من خيار) صلى الله عليه وسلم، ما اجتمع عليّ أو لي أبوان على باطل، أو على سوء، من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

لما عجزوا أن يلصقوا به شيئاً من التهم الباطلة، لجئوا إلى الغمز واللمز والضحك والاستهزاء والسخرية والتعالي على المؤمنين، وأوضح الله جل وعلا هذا في كتابه، يقول الله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:٥٣] يقولون: لم يجد الله من يمتن عليهم إلا هؤلاء الضعفاء: بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وابن مسعود الهذلي، ضعفاء القوم، أي: أنتم الذين تدخلون، لماذا لم ينزل القرآن على رجل صاحب شخصية؟ وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١] ما وجد الله إلا أنت يا محمد؟ قال الله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف:٣٢] فالله هو الذي قسم الرحمة بين العباد.

وروى البخاري في صحيحه: أن امرأة قالت للرسول صلى الله عليه وسلم -امرأة مشركة كافرة- وهي ساخرة ومستهزئة: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً -تقول: لماذا لم يأتك شيطانك؟ أي: تتصور أن الذي يأتي بالوحي أنه الشيطان- فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:١ - ٣].

وروى البخاري -أيضاً-: أن أبا جهل قال مستهزئاً متحدياً كما قال الله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:٣٢] فنزل قول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:٣٢] قال الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:٣٣] وجود النبي صلى الله عليه وسلم كان أماناً من العذاب {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:٢٣ - ٣٤].

وذكر ابن إسحاق حديث العراشي الذي باع لـ أبي جهل الإبل ومطل بأثمانها، فـ أبو جهل كافر مماطل خبيث اشترى من شخص من قبيلة عراش قطيعاً من الإبل، ثم وعده بأن يعطيه الثمن بعد ذلك وماطله، فلما جاء الأعرابي إلى قريش قالوا له: ما تريد؟ قال: أبو جهل اشترى مني ولم يعطني المال، قالوا: تريد رجلاً يعطيك؟ قال: نعم.

قالوا: اذهب إلى محمد، لماذا؟ من باب الاستهزاء والتهكم؛ لأن وضع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مستضعف، لا يستطيع أن يحمي نفسه، وأبو جهل هو سيد القوم وكبيرهم، فالأعرابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه، فذهب معه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي جهل، وقال له: أعطه حقه، قال: حسناً وذهب أبو جهل وأعطاه ماله، ما له كاملاً، فلما سمعت قريش أنه أعطاه، سألوه، قالوا: ما هذا؟ كيف تعطيه؟ كيف سلمته؟ قال: ويحكم والله ما هو إلا أن طرق بابي، وسمعت صوته حتى ملئت رعباً وفزعاً، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلاً من الإبل فاغراً فاه ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه، والله لو أبيت لأكلني.

فقد كان فاغراً فاه الناب الأعلى عند رأسي والناب الثاني عند رجلي، يريد أن يبلعني.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم كانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم ويستهزئون به، يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:٢٩ - ٣٠] كل شخص يقول: انظر {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:٣١].

وهذه الآية وإن كانت تفسر حادثة من حوادث الزمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنها خلق العصاة والمجرمين في كل زمان، وهو الاستهزاء بالذين آمنوا، ولذا انتبه واحذر من أن تستهزئ بشيء فيه ذكر الله؛ لأنه يعرضك للوقوع في الكفر والعياذ بالله.

ثبت -أيضاً- من طرق صحيحة في مسند أحمد في بعض الأحاديث: أن أشراف قريش اجتمعوا يوماً في الحجر وتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وبينما هم في شأنه إذ طلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فسكتوا، ثم بدءوا يغمزونه، فقال لهم: (يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح) وكان في وقته وقت ضعف الإسلام والمسلمين لا يقدر أحدهم أن يسلم، فالذي يسلم يحارب، ومع هذا يقول لهم هذه الكلمة لرفع شعار من شعارات التقوى، وهذا يدل على قوة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته، وعلى رده على استهزاء هؤلاء، ومن منطلق الاستعلاء والكبرياء على الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نجالس هؤلاء -أي: صهيباً وبلالاً وخبيباً - اطردهم عنا، اجعل لنا مجلساً، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يوافق ويجعل لهؤلاء مجلساً ولهؤلاء مجلساً طمعاً في إسلامهم، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:٥٢] ويقول عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:٢٨].

وفي يومٍ من الأيام مر صلوات الله وسلامه عليه على مجموعة من المشركين فاستهزءوا به، فغاضه وامتلأ قلبه غيضاً، فأنزل الله عليه: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:١٠].

ومن كبار المستهزئين الذين تولوا كبر الاستهزاء والسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم مجموعة: منهم: الأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة المخزومي أبو خالد بن الوليد رضي الله عنه، والعاص بن وائل السهمي أبو عمرو بن العاص رضي الله عنه، والحارث بن الطلاطلة الخزاعي، فأنزل الله عز وجل في هؤلاء: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:٩٥] أي: سوف نقضي عليهم، وقد ثبت أن جبريل رمى في وجه الأسود بن عبد المطلب ورقة خضراء فعمي، أذهب الله بصره وطمس عينيه؛ لأنه كان مستهزئاً كبيراً، ومر الأسود بن عبد يغوث بجبريل فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه -انتفخ- حتى صار مثل الجرة ثم مات، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى جرح صغير في أسفل كعبه فانتقض الجرح، وكان قبل سنين قد سل، فانتقض الجرح ثم مات، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار يريد الطائف، فربض به حماره على نبات خفيف فدخلت شوكة في أخمص رجله فقتلته، ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فتحرك الصديد فيه وقتله، ومن كبار المستهزئين أبو جهل وأمية بن خلف، والنضر بن الحارث، والأخنس بن شريح، وأبي بن خلف، وهؤلاء كلهم قتلوا وقضي عليهم في معركة بدر وبعدها، نصراً لنبيه صلى الله عليه وسلم.