للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أخلاق أهل الجنة]

أما في ما بينهم -أيها الإخوة- من أخلاق وتعامل، فلا خصام ولا كذب ولا لغو ولا حسد، بل تحيتهم فيها سلام، يقول الله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:٢٣] {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} [يونس:١٠] ما هي آخر دعواهم؟ إذا أرادوا شيئاً، أحدهم يريد فاكهة -مثلاً- لا يقول: أنا أريد فاكهة وإنما يقول: سبحانك اللهم، أو يقول: الحمد لله رب العالمين فتأتي الفاكهة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس:١٠] {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:٢٥ - ٢٦] ليس عندهم إلا سلام، لماذا؟ لأنهم في دار السلام، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل دار السلام.

ثم يحصل بينهم نوع من الذكريات، وأهل الجنة على الأسرة يقابل بعضهم بعضاً يشربون من الأنهار ويتناولون من الثمار، ويأكلون من الفواكه واللحوم، وينكحون أجمل الحوريات، يحصل لهم نوع من الذكريات، وهذا نوع من النعيم، أنهم يتحدثون في الجنة، فيتذكرون ما كانوا فيه، يذكر الله عز وجل لنا في كتابه الكريم بعض هذه الأحداث والمحاورات، يقول الله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:٢٥ - ٢٦] يقولون: إنا قبل ونحن في أهلنا ومع أزواجنا ومع أولادنا كنا خائفين، كنا مشفقين من عذاب الله، كان هذا الخوف يمنعنا من المعاصي، كان هذا الخوف يزجرنا عن الآفات والسيئات، كان يقودنا إلى الطاعات والعمل الصالح: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [الطور:٢٦ - ٢٧] أي: أمّننا الله: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:٢٧ - ٢٨].

ويقول عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:٥٠ - ٥١].

واحد أهل الجنة يتحاور مع جلسائه في الجنة قال لهم: إني كان لي قرين، كان لي صاحب، كنت على الطاعة وهو على المعصية، كان يستهزئ بي، كان كلما رآني على الإيمان والعمل الصالح قال لي: هل أنت مصدق أن هناك جنة ونار؟ {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:٥١ - ٥٣] وبينما هو يحدثهم وإذا بآخر يقول: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:٥٤] هل تريدون أن ترون هذا الذي كان يكذب، هذا لم يختفِ، بل موجود، أين يا رب؟ موجود في النار.

قال عز وجل: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٥٥] في وسط النار: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:٥٤] هل تريدون أن تروا هذا المستهزئ المكذب، هل أنتم مطلعون، -وهم على الأسرة- ويفتح لهم باب ونافذة، وإذا بهم يرونه: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٥٥] ماذا قال؟ {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:٥٦] يقول: والله إنك أردت أن تهلكني يا عدو الله! {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:٥٧] أي: لولا الثبات على الدين لكنت من المحضرين، ثم يقول لإخوانه: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقومِ} [الصافات:٥٨ - ٦٢] هذا المكان أحسن أو ذاك ما رأيكم؟ إذا دخلت بيتاً وتريد أن تتعشى، وأنت معزوم على العشاء، واستوقفك صاحب البيت وقال: انظر! هذا المجلس يوجد فيه عشاء ومشايخ وعلماء وخرفان وفاكهة، وهذا المجلس يوجد فيه (سواطير) و (مشاعيب) وسلاسل ومجرمون، وخبط وضرب، تريد هنا أو هناك، ماذا ستقول؟ ستقول: تخيرني! الله أكبر عليك! تشاورني! ليس في هذا مشورة، ونحن نقول للناس الآن: يوجد جنة ونار هل فيها خيار؟ ماذا تختار؟ الله يقول: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨] ويقول تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦] تختار بين الجنة والنار؟! {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:٣٦].

أيضاً من دواعي النعيم في الجنة أن يحصل نوع من الكشف لأهل الجنة بما يعاني منه أهل النار، ليعرفوا فضل الله عليهم بنعيم الجنة، وقد ذكر الله تبارك وتعالى هذا في أنه يحصل محادثة بين أهل الجنة وأهل النار، قال عز وجل في سورة الأعراف: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:٤٤] النداء يأتي من الجنة لأهل النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقاً} [الأعراف:٤٤] يقولون: وجدنا الذي وعدنا الله من النعيم، إنه موجود حقاً ونحن فيه الآن {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقاً قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:٤٤] أهل النار يقولون: نعم.

فقط! لم يطيلوها؛ لأنه ليس هناك مجال للتطويل؛ لأنهم في النار والذي في النار لا يستطيع أن يتكلم كثيراً: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:٤٤] أعاذنا الله وإياكم من النار.

ثم يأتي نداء من أهل النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [الأعراف:٥٠] لا يريدون إلا الماء؛ لأنهم في نار تشوي أجوافهم وأكبادهم {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:٥٠].

ويذكر الله تبارك وتعالى ما يقوله المنافقون حينما تنطفئ أنوارهم ولا يرون نوراً وهم يسيرون على الصراط، فيقول عز وجل: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣] قال المفسرون: انظرونا يعني: انظروا إلينا من أجل أن نقتبس من أنواركم، أو انظرونا أي: انتظروا حتى نلحق بكم ونمشي على نوركم: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} [الحديد:١٣] يعني: اذهبوا إلى الدنيا، الأنوار التي تريدها في الآخرة تأخذها من الدنيا، و (ارجعوا وراءكم) تقال لهم على سبيل التهكم وإلا ليس هناك إمكانية للرجوع إلى الدنيا: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:١٣ - ١٤] كنا جيراناً وإخواناً وأصدقاءً وأرحاماً وزملاءً، كيف ذهبتم وتركتمونا؟ {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} [الحديد:١٤] نعم.

كنا سوياً: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:١٤] بالمعاصي والوقوع فيها، وترك الطاعات وعدم ممارستها: {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد:١٤] وما هي الأماني؟ ما يفعله من يتمنى المغفرة وهو مقيم على الذنب، عندما تذهب إلى شخص وهو غارق إلى أذنيه في المعاصي وتقول له: يا أخي! اتق الله! فيقول لك: ربنا غفور رحيم، غفور رحيم لك؟ لا.

غفور رحيم لمن يتوب ويرجع، أما المصر على الذنب فلا.

بل شديد العقاب عليه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:٤٩ - ٥٠] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} [طه:٨٢] لكن لمن؟ لمن استمر؟ لا.

{لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:٥٣] ثم قال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:٥٤].

أما أن يظل مقيماً على المعاصي ويقول: الله غفور رحيم، فهذه أماني، والأماني رءوس أموال المفاليس، هذا مفلس يوم القيامة، ليس عنده شيء إلا الأماني، والأماني لا تفعل شيئاً: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:١٤].

ويحصل أيضاً خطاب بين أهل الجنة، يقول الله عز وجل: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر:٣٩ - ٤٠] أحدهم يسأل ويقول: أين فلان؟ لكن عمن؟ عن المجرمين.

إذا عرف أنه مجرم قال: أين هو؟ فيقال: في النار.

فينظر إليه ويقول: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:٤٢] ما الذي ذهب بك إلى النار؟ لماذا لم تكن معنا؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ