للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إحياء الله لبعض الموتى في الحياة الدنيا]

وهذه تؤكد عملية إحياء الأموات.

إحياء الأموات في هذه الحياة؛ حصل هذا أن أناساً ماتوا فأحياهم الله، وإحياؤهم دليل على قدرة الله عز وجل على إحياء الناس كلهم بعد الموت، ولقد شاهد البشر في فتراتٍ مختلفة من التاريخ عودة الحياة مرة أخرى إلى الجثث الهامدة والعظام البالية المتفتتة، بل شاهدوا الحياة تدب في الجمادات، وقد حدثنا الله عز وجل وأخبرنا عن هذه المعجزات الباهرات في كتابه الكريم فمن ذلك: قوم موسى لما قالوا له: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:١٥٣] وقد مارس العملية أولاً حين قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣] فالله تعالى قال له: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] أي: لن تستطيع أن تصمد عيناك لرؤيتي {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] إذا تمكن جبل الطور من أن يستقر ويواجه عظمة الإله فسوف تراني، يقوله الله عز وجل، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:١٤٣] الله لم يتجلَّ لموسى ولو تجلى له لاحترق، لكن تجلي الله للجبل جعله يخر مدكوكاً: {جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣] لا إله إلا الله!! هؤلاء قومه قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:٥٥] قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الذاريات:٤٤] صعقتهم الصاعقة وماتوا وتقطعت قلوبهم في أجوافهم، لكن قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:٥٥ - ٥٦] فالله أحياهم بعد أن أماتهم وبعثهم لعلهم يعرفون الله تبارك وتعالى.

كذلك بنوا إسرائيل لما قتل فيهم قتيل بين قبيلتين: وكان رجل منهم له ولد وهذا الولد له عم، فأراد الولد أن يقتل عمه ليأخذ ماله، فقتله ثم حمله ورماه في القبيلة الثانية، وجاء في اليوم الثاني وإذا بالمقتول عندهم، قالوا: أنتم الذين قتلتموه، قالوا: ما قتلناه ونحن أبرياء منه، قالوا: لا بد أن نسأل، ثم ذهبوا إلى موسى عليه الصلاة السلام، قالوا: هذا الرجل وجدناه قتيلاً عند آل فلان وهم ينكرون قتله، فمن قتله؟ فطلب موسى من الله تبارك وتعالى أن يوحي إليه بمن قتل هذا المقتول، فالله عز وجل أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة حتى يؤخذ شيء من هذه البقرة ويضرب بها ذلك الميت فتعود له الحياة ويخبر بمن قتله.

فبنوا إسرائيل على عادتهم لا يمتثلون الأمر مباشرة، ولكنهم يلفون ويدورون، قالوا: يا موسى ما لونها؟ ما هي؟ ما شكلها؟ ما طولها؟ ما عرضها؟ فشدد الله عليهم؛ كلما سألوا سؤالاً أعطاهم صفة لا يجدونها، حتى إنهم لم يجدوا تلك البقرة إلا عند امرأة من بني إسرائيل رفضت أن تبيعها لهم إلا بملء جلدها ذهباً أحمر، يقول بعض المفسرين: لو أنهم أخذوا أي بقرة من البقر وذبحوها لوجدوا الغرض، لكن لما شددوا شدد الله عليهم.

ولهذا انتبهوا أيها الإخوة! من شدد شدد الله عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين عميق فأوغلوا فيه برفق، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه) ويقول صلى الله عليه وسلم: (ولا تغلوا كما غلت أهل الكتاب) فإن غلّو بني إسرائيل أخرجهم من الدين وقال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:١٧١] والغلو: هو تجاوز الحد.

وأريد أن يفهم الناس من هذه الكلمة أن الغلو ليس تطبيق السنة؛ بعض الناس عندما يرى شاباً يقصر ثوبه، ويضع يديه على صدره، ويصلي في المسجد، ويغض بصره قال: هذا متشدد، وأنت؟ قال: أنا على الدين، ماذا تفعل؟ قال: أغني، وأجلس مع النساء ولو تبرجن فإن الدين يسر، هذا كذب، هذا ليس ديناً، هذا تمرد وتملص وتسيب وتضييع لدين الله عز وجل؛ الدين اليسر هو السنة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك الدين تسيب؛ والتشدد يكون فوق ما أمر الله به.

أعطيكم مثالاً على التشدد، والحديث في الصحيحين: ثلاثة نفر جاءوا إلى نساء الرسول فسألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبروا بها فكأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله؟ رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! أما نحن لم يغفر لنا ما تقدم ولهذا لا بد أن نزيد! انظروا هذه النظرة! أكثر الناس الآن عندما تقول له: يا أخي! هذه سنة رسول الله، قال: وأين أنا من رسول الله، تريدني أن أكون مثل الرسول؟ لن أصير مثل الرسول، سبحان الله! يقول: الرسول صادق وأنا لا أقدر أن أصدق مثل الرسول ولا أصلي في مسجد الرسول كما يصلي هو، لكنه رسول يصلي في المسجد، أما أنا فلا أقدر أن أصلي؛ أنا ضعيف! ويضيع الدين بحجة أنه ليس مثل الرسول، لكن لك في رسول الله أسوة حسنة، يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١] هؤلاء الصحابة يقولون: أين نحن من رسول الله؟ لسنا مثل الرسول مغفور لنا، ولذا فلا بد أن نزيد، فشخص قال: أنا أقوم الليل ولا أنام أبداً -رضي الله عنهم وأرضاهم، آمنوا والله إيماناً مثل الجبال- والثاني قال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً! والثالث قال: النساء والأطفال مشغلة عن دين الله، فلن أتزوج النساء أبداً! هذا غلو! هذا خروج على فطرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته وهديه، وبالتالي يكون تغييراً للمبدأ وللمنهج الإيماني؛ منهج النبي صلى الله عليه وسلم، لما سمعهم نادى فيهم وقام وخطب الناس؛ قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) هذا هو التشدد -أي: أنك تشدد على نفسك- بعض الناس يتشدد ويمشي حافياً! ماذا بك؟ قال: يا شيخ، هذه الحذاء تفسد الرجال، أنا أريد أن أمشي من أجل أن أشتد، يا أخي امشِ بالحذاء! كان صلى الله عليه وسلم لا يتكلف مفقوداً ولا يبخل موجوداً، إن وجد حذاء لبسها ولا يرفضها، وإن لم يجد مشى، وأنت إذا لقيت حذاءك انتعلها، لكن تدعها وتمشي حافي القدمين في الشارع فهذا ليس من الدين.

وسمعت عن بعض الناس يقولون: لا نستعمل الكهرباء، لماذا؟ قالوا: إن هذه الكهرباء تأتي لنا بالمنكرات! ويستعملها أهل المعاصي في المنكرات! طيب: الهواء الذي تتنفسه أنت الآن يستنشقه أهل المعاصي في المنكرات، إذاً اترك الهواء، والماء الذي تشربه؛ لأن أهل المعاصي يشربونه، والأرض التي تسير عليها أهل المعاصي يسيرون عليها، أجل! اخرج من الأرض وطِر في السماء وحلق! هذا ليس دين الله تبارك وتعالى، هذا غلو وتشدد.

وأحد الإخوة دخل على أناس في مسجد وإذا بهم يموتون من الحر! سوف ينقطعون في - الرياض أيام الحر الشديد- وإذا به يصلى معهم ولا يعرف كيف يصلي، ولما انتهى قال: يا جماعة: لم لا تشغلون المراوح والمكيفات؟ لماذا يا إمام؟ قال: هذا من الترفيه الذي لا ينبغي! الإمام نفسه يقول: لا تشغلوا المراوح ولا المكيفات، ابقوا في الحر حتى تعرفوا حر جهنم! هذا ليس من دين الله، لا حول ولا قوة إلا بالله! هذا اسمه غلو وتجاوز للحد، نحن ننصح الناس من الغلو في الدين؛ لأن الغلو إذا تجاوزه الشخص انعكس، يقول: ما تجاوز الحد انقلب إلى الضد.

فبنوا إسرائيل تجاوزوا وبدءوا يلفون ويدورون حتى إن الصفة لم تتوفر إلا في تلك البقرة الوحيدة فاشتروها بملء جلدها ذهباً ثم ذبحوها.

وجاء موسى عليه السلام وأخذ ضلعاً من ضلعها وضرب الميت، قال الله تبارك وتعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:٧٣] حين ضربه قام الرجل كأنه كان نائماً، قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي، وابن أخيه هو الذي يصيح ويقول: كيف تقتلون عمي؟! قال الميت: هذا الذي قتلني، فأخذوه وقتلوه، فهذا من آيات الله التي حصلت في إحياء الموتى بعد أن كانوا موتى، أحياهم الله! وإن من أحياهم قادر على إحياء جميع الأموات.

- الدليل الثالث: أخبرنا الله عز وجل في آخر سورة البقرة عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:٢٤٣].

-الدليل الرابع: حدثنا الله عن الرجل المكذب الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؛ البيوت قد تهدمت، والقبور قد نصبت، والحياة قد انطمست، فقال في عقله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:٢٥٩]؛ استبعد وقال: متى يحيي الله هذه الأرض بعد موتها؟ {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٥٩] رأى العظام وهي تتشكل، ورأى العظام وهي تكسى لحماً، ورأى الروح وهي تنفخ، أما طعامه الذي كان معه قبل أن يموت فقد بقي لم يتسنه ولم يتغير ولم يتحمض ولم يتعفن رغم مرور مائة سنة وهو محفوظ بالقدرة الإلهية لم يتغير أبداً؛ لأنه آية