للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رمضان شهر الصيام والقيام لا شهر الشراب والطعام]

الإيحاء الأول: إن كثيراً من المسلمين -إن لم نقل جلهم وأغلبهم ومعظمهم- شعروا أو فهموا أن رمضان شهر الطعام، وبرهنوا على هذا بتصرفاتهم؛ فتراهم في آخر يومٍ من شعبان أو قبله بيومين أو ثلاثة يتوجهون إلى الأسواق، وكأنهم لا يأكلون إلا في رمضان، كأنهم طوال السنة جائعون، ودخل رمضان شهر الأكل، ويملئون بيوتهم بشتى أصناف الطعام، وتقوم النساء بتقديم البيانات وكشوف الأطعمة للأزواج وتقول: هذه حاجيات رمضان، وشوال أليس له حاجيات؟! وشعبان ورجب أليس لها حاجيات؟! لكن رمضان له حاجيات، لماذا؟ لأنه شهر الأكل، بينما هو شهر الصوم، فقد فرضه الله لكي نعطل جزءاً كبيراً من وقتنا عن الطعام، وبالتالي يحصل توفير في أموالنا، وندخره لننفق به على إخواننا الفقراء والمساكين، لكننا غيَّرنا هذا المفهوم وجعلنا شهر رمضان شهر الأكل والطعام فينهال الناس على الأسواق، ولا يشترون بقدر الحاجة، ولكنهم يشترون بغير مقدار (بالكراتين) المرأة تقدم له قائمة، وتقول: (كرتون) شعيرية، و (كرتون) مكرونة، و (تطلي)، وشربة، وكريمة، و (قمر الدين)، ووقطر الموز؛ وقطر الموز هذا العلبة منه تكفي لشهر؛ لأنها قطرات فقط، وإذا لم يأت (بكرتون) يا ويله! لأن الحياة كلها أصبحت (كراتين) الله المستعان!! وبعدها يذهب هذا الرجل ويحمِّل سيارته بشتى أنواع الطعام ويخزنها في البيت، ثم يملأ الثلاجة، وفي أول يوم من رمضان في الصباح يتنقل في المحلات وفي الأسواق، ثم يأتي بكل شيء، ثم تقوم ربة البيت من بعد صلاة الظهر وهي في حالة استنفارٍ كامل؛ تستنفر كافة القوى في البيت؛ الخادمات والأولاد والبنات، وحتى الرجل يشغلونه ويقولون له: تعال تعاون معنا، ثم توقد النيران على الأطعمة، وتتعدد إلى خمسة عشر أو عشرين نوعاً من أنواع الأطعمة، ومن بعد الظهر إلى المغرب وهي مشغولة بالطبخ من أجل ماذا؟ قالوا: من أجل أن رمضان كريم، وبعدها يأتون ليفطروا على سبع تمرات وفنجان قهوة وفنجان الماء وشبعوا، ألستم تشبعون من هذا أيها الإخوان؟! والله كل المسلمين يشبعون من التمرات ومن كوب الماء والقهوة، ولو اكتفوا بهذا وصلّوا لكانت صلاتهم مريحة، ولعاشوا عيشة هنيئة، ثم إنهم لا يكتفون بهذا عند الإفطار، وإنما يأكل مع التمرات والسنبوسة، واللقمة، والشربة، والعصائر، والمهضمات، هذا هو الفطور الذي ينهي معدة جمل، أما العشاء فلا يبلعه إلا فيل، ويذهب ليصلي المغرب ثم يعود بعد صلاة المغرب وأمامه عشرات الأصناف، ويجلس ولا بد أن يأكل من كل صنف منها، والويل له إن لم يمد يده على كل صنف منها؛ لأن المرأة سوف تغضب وترفع صوتها عليه، وتقول: وأنا أشتغل لمن؟ وأنا أصلحته من أجل من؟ وأنا واقفة على رجلي طوال اليوم من أجل من؟ والله لا بد أن تأكل من هذا، ومن هذا، والله والله وذلك الرجل يقول: حسناً! حسناً! حسناً! حسناً! ويأكل ويأكل! وإذا امتلأ بطنه فلا يبقى له نفس، إن المعدة تقسم ثلاثة أثلاث؛ ثلثٌ للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس، لكن الناس يملئون الثلاثة الأثلاث طعاماً، والماء يحشونه حشواً، وأما النفس فلم يعد هناك نفس، بعدها لم يستطع أن يتكلم، أما وقت التراويح، فإنهم لا يأتون للصلاة إلا متأخرين، الآن بين أذان المغرب وأذان العشاء مقدار ساعتين، وتراهم يأتون والإمام يصلي وهم هناك خلف المصلين، حسناً! أين هم من بعد المغرب؟ قالوا: كنا نأكل، ولو أنهم ملئوا سيارة خلال تلك المدة لملئوها! لا إله إلا الله! ثم بعد ذلك يذهب ليصلي وهو متعب مريض الجسم، مثقل بالأحمال التي قد ملأ بها بطنه، فيرى التراويح هذه من أعظم المهمات، وإذا وجد إماماً خاشعاً تالياً لكتاب الله، أي: يؤدي الصلاة بطمأنينة غضب عليه، وضاقت أخلاقه، وصلى ركعتين وخرج، وإن كان شجاعاً صلى ثلاثاً أو أربعاً، وإن صلى إلى آخر الصلاة تنظر إليه بين الصلاة وهو يراوح بين رجل ورجل، يقدم هذه ويؤخر هذه، وإذا دخل في الصلاة دخل كأنه واقع في قدر، من أجل المعدة المرهقة المتعبة المثقلة بشتى أنواع الطعام، ثم يخرج وبعدها يرجع ليأكل إلى السحور، طوال الليل مكسرات، وفواكه، ومشروبات، ومهضمات، ثم إذا جاء السحور قال: نريد سحوراً جامداً انتبهي! نريد شيئاً يبقى في بطوننا إلى المغرب، ثم يأكل إلى أن يؤذن، بل إن شخصاً سألني البارحة، يقول لي: هل أنا أتوقف من الأكل مع بداية الأذان، أو مع آخر الأذان؟ لا يريد أن يتوقف ولا دقيقة، قلت له: إذا أذن للمغرب هل أنت تأكل مع بداية الأذان، أو مع نهاية الأذان؟ قال: مع بداية الأذان، قلت له: لماذا لم تنتظر حتى يكمل الأذان؟! لماذا في السحور تأكل حتى ينتهي الأذان؟ فعليك أن تتوقف عند أول كلمة من أذان الفجر، كما أنك تبدأ بالفطور عند أول كلمة من أذان المغرب، لا عليك يا أخي! لو توقفت عن الأكل في السحور قبل عشر دقائق، لماذا تأخذ بنفسك إلى آخر درجة، لماذا؟ يقول: لا أريد أن أفوت دقيقة لا آكل فيها.

قولوا لي بربكم -أيها الإخوة- هل تحقق مفهوم الصيام من هذا الصائم؟ لقد شرع الله الصوم من أجل أن يشعر الإنسان بمرارة الجوع وشدة الألم، فيحس أن هناك مسلمين في العالم الإسلامي يموتون جوعاً، ويعيشون رمضان طوال العام لا يذوقون الأكل.

يقول لي أحد قادة المجاهدين: إن ثلاثة عشر مليون مسلم في أفغانستان من اللاجئين يتعرضون الآن للموت والمجاعة، والمجاهدون الأفغان الآن يبيعون أسلحتهم ليشتروا لأولادهم طعاماً، ومائتا طفل يموتون يومياً من الجفاف، ونحن نموت تخمةً وشبعاً، وبعد ذلك يذهب إلى (المستشفى)، فترى صفوف البشر بعد صلاة التراويح وهم ذاهبون إلى (المستشفيات) ونرى الأطباء في العيادات الخارجية؛ طبيب الأذن لا يوجد أحد عنده! وطبيب العين لا يوجد أحد عنده! وطبيب الأرجل والعظام لا أحد يأتيه! والناس كلهم مثل النحل على طبيب الباطنية، وكلهم باطنية، وكل شخص يشتكي: بطني يا (دكتور)! بطنك من عمل يدك، أوقف يدك، بعضهم مملوءة بالحبوب يأكل ويقول: هذا يهضم، وهذا شراب يهضم، لا تهضم ولا تكظم، دع الطعام في الثلاجة، وبعدها اعمل برنامجاً إسلامياً للغذاء، فهناك برنامج إسلامي للغذاء في رمضان، بعض النساء تتصور أن زوجها بخيل، وعليه أن ينفي عنه هذه التهمة، ويأتي إليها ويقول: يا فلانة! تقول: نعم، يقول: كم صرفنا في شعبان؟ مصاريفنا إلى كم تصل؟ تقول: تصل إلى ألفي ريال، ورمضان كريم نريد أن نصرف فيه ستة آلاف ريال، لكن بطريقة تختلف عن طريقة الناس، ما هي هذه الطريقة؟ الطريقة: أن نضع خمسة آلاف صدقة في يد الله، نرسلها لإخواننا الفقراء والمساكين في أفغانستان، لنفطّر بها الصائمين هناك، وألف ريال نشتري بها طعاماً خفيفاً نفطر على تمرات فقط، ونرجع نتعشى ونأتي لنا بقرصين من العيش، أو ثلاثة أقراص من العيش نأتدم بحساء شربة، أو قطعة لحم بسيطة في مرق، أو قليل من الأرز ثم أذهب لأصلي، وبعد الصلاة نأتي لننام، وقبل الفجر نتسحر على تمرات؛ لأنه خير سحور المؤمن التمر، وإذا وجد عليه شيء من الفاكهة فلا مانع، ماذا تقول المرأة؟ إن كانت مؤمنة تقول: جزاك الله خيراً ما دام هذا فعلك، هذا صحيح ليس ببخل؛ فلو أنك بخيل لم تدفع خمسة آلاف ريال، لكن بعض النساء -والعياذ بالله- شبيهة بالسائمة لا تريد إلا أن تأكل وترقد، ولهذا إذا لم يأت لها بهذه الطلبات يا ويله! سوف تأكل عرضه، وقد تسبه عند الجيران وأقاربه وأهله وتقول: فلان أجاعنا، الناس في رمضان يأكلون ونحن نموت جوعاً بسبب هذا الرجل.

لا، وأنا أهمس -أيها الإخوة- همسة، في أذن أخواتي المؤمنات الموجودات في هذا المسجد، والسامعات لهذا الشريط أن يتقين الله في رمضان، نريد أن نحدث تغييراً في حياتنا، وفي طريقة غذائنا في رمضان، وبقي معنا خمسة عشر يوماً -أيها الإخوان- نحن الآن في النصف وبقي معنا خمسة عشر يوماً بإمكاننا أن نغير، وأن نضع برامج خفيفة سهلة للطعام، بحيث لا توقد نار، ثم أرجع إلى المرأة التي كانت تقف من بعد الظهر إلى المغرب على النيران أقول: تعالي من بعد الظهر إلى المغرب واقرئي القرآن، فبعض النساء الآن دخل رمضان وقد انتصف ولم تختم القرآن مرة واحدة، مشغولة (بالسنبوسة) تقليبها وتقريصها وتقطيعها وقليها وأخذها، هذه ليست مهمة في رمضان: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:١٨٥] ما هو للأكل ولا للأقراص، تعالي لا نريد اليوم (سنبوسة) تعالي نقرأ القرآن، من بعد الظهر إلى المغرب ونحن نقرأ القرآن، وإذا جاء المغرب سهل ماذا سيحصل لنا، ليس هناك مشكلة، هذه البطن ليست مشكلة، فالأمر سهل، فضع في معدتك تمرتين وامتلأت، وبعدها والله ليس هناك أحسن من قلة الطعام، يقول الإمام الغزالي: سألت الأطباء فقلت لهم: ما سر طبكم؟ قالوا: في قلة الطعام، وسألت العلماء وقلت لهم: ما حكمة علمكم؟ قالوا: في قلة الطعام، وسألت الفقهاء فقلت لهم: ما علة فقهكم؟ قالوا: في قلة الطعام، وسألت الزاهدين في الدنيا فقلت لهم: ما سر زهدكم؟ قالوا: في قلة الطعام، فوجدت قلة الطعام فيه كل خير في الدنيا والآخرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شرٌ من بطنه) أي وعاء تملؤه ليس هناك أشر من بطنك (وبحسب ابن آدم لقيمات) ليس (لقمات) بل (لقيمات) تصغير أي: اثنتان أو ثلاث أو أربع (وكان صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه الحجر والحجرين والثلاثة) من الجوع، وكان بإمكانه أن يأكل، لكن يقول: أريد أن أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت سألت الله، وإذا شبعت شكرت الله تبارك وتعالى.

فالإيحاء الأول من رمضان: أن نعتبره شهر الصيام والمعاناة والتعب، لا شهر الطعام والشراب، هل بإمكاننا أن نحقق هذا البرنامج؟ نعم بإمكاننا، وأن نوفر المبالغ الزائدة التي نصرفها في شتى أنواع الطعام ثم نرميه، فيا ليت الناس يطبخون الطعام ثم يأكلونه، لكنهم يصنعون هذه الأصناف، ثم ينتهون من أكل ما قدروا عليه، ثم يصبون الباقي على السفرة، يفتح البرتقالة ويأكل منها جزءاً فقط، وثلاثة أرباعها ترمى، ويفتح التفاحة ويأكل منها الربع وثلاثة أرباعها يدعها، ويأ