للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة من مشروعية الصيام]

إذاً: الأمم السابقة كانت تصوم، كما قال الله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] فقد ذكر الله عز وجل الحكمة من تشريعه لهذا الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] لم يفرض الله عز وجل الصيام لمصلحة له، فالله غنيٌ عنا وعن صيامنا وعبادتنا، ولو صام أهل الأرض كلهم ما زاد في ملك الله شيء، ولو أفطر أهل الأرض كلهم ما نقص من ملك الله شيء؛ لكن الصيام شرع لنا لكي نتقي، وترتفع أرصدة التقوى في قلوبنا، ونشعر بحسن العلاقة مع الله، ولذا ترون الناس في رمضان أحسن حالاً منهم في غير رمضان، فعندما يصوم الناس ترتفع درجات التقوى عندهم؛ فيصلون في المساجد، ويقرءون القرآن، ويتصدقون، ويحبون الله، ويذكرون الله، لماذا؟ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] لأنهم صاموا فاتقوا الله.

ثم قال عز وجل وهو يلطف الأمر حتى لا ينزعج أصحاب البطون فقال: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:١٨٤] أي: ما جعلناها سنة كاملة، ولا عشرة أشهر، ولا ستة أشهر من السنة، أي: ما جعل النصف صيام والنصف إفطار، وإنما هو شهر من اثني عشر شهراً، وكذلك هذا الشهر نصفه إفطار والنصف الآخر صيام، اثنتا عشرة أو ثلاث عشرة ساعة إمساك وبقية الليل من المغرب إلى الفجر أكل، فماذا بقي علينا من التعب؟ هذا في الماضي، أما الآن فلا ندري بالصيام، وما نصوم إلا من العصر إلى المغرب فقط؛ لأننا نتسحر ونصلي الفجر وننام إلى الظهر، ونقوم نصلي الظهر وننام حتى صلاة العصر، ثم نصوم إلى صلاة المغرب، فلا يبقى من صيامنا إلا من صلاة العصر إلى صلاة المغرب فقط، ثم بعد ذلك نفطر؛ لأن الصائم النائم لا يحس بألم، هل تحس بالجوع وأنت نائم؟ هل تحس بالعطش وأنت نائم؟ ولذا حين يستيقظ أحدنا في العصر ويذهب يصلي لا يزال السحور في بطنه ما ذهب منه شيء؛ لأنه لم يتحرك ولم يذهب، ولا يزال الماء في بطنه؛ لأنه لم ينزل منه قطرة عرق، وعندما يفطر يقول: والله إنني شبعان، والله ما كأني صائم؛ لأنك نائم طوال يومك، ما صمت إلا من العصر إلى المغرب، ولو أنك من الصباح في شغل فإنك صائم، لكن الأجر كامل إن شاء الله، ولا يتصور أحد أنه ليس له أجر، فالصيام صيام شرعي وأجره كامل، لكن رحمة من الله أن الله لطف بنا -أيها الإخوة- فنحن في نعمة.

قلت لأحد كبار السن في مكة: كيف كان صيامكم؟ فقال: والله ما كانت تأتي علينا الساعة (العاشرة) في أول النهار إلا وقد ذبل أحدنا كما تذبل الشجرة، وأصبح الشخص منا لا يوجد في فمه قطرة ريق، وإن لسانه كالسفنجة من العطش، فلا يستطيع أحدنا أن يتكلم بكلمة واحدة من شدة الجوع والعطش.

قلت: ماذا تعملون؟ قال: كل في شغله، هذا في مزرعته، وهذا معه إبله وغنمه، وهذا في سوقه.

قلت: لماذا لا تنامون كالناس وتشتغلون في الليل؟ قال: إذا نمنا نامت أرزاقنا، ولا يوجد عمل في الليل، فالليل من المغرب إلى قبل العشاء قليل على سرج بسيطة بزيت بسيط من القاز ندخره كما ندخر الذهب الأصفر، وبعد ذلك نطفئها والكل ينام؛ لعدم وجود النور، وأما الآن قد حولنا الليل نهاراً والنهار ليلاً، حتى العمال الآن في المباني معهم كشافات كأنها شمس، ويعملون من بعد المغرب إلى الفجر ثم يذهبون ينامون إلى المغرب، وقالوا: هم صائمون، فبعضهم يصلي، وبعضهم لا يصلي.

فهي أيام معدودة على الذين كانوا يتعبون فيها، أما نحن -ولله الحمد- اليوم فهي ساعات معدودة في حياتنا.

ثم قال عز وجل بعد ذلك رحمة بالأمة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:١٨٤] مع أنها مبسطة ومكتوبة كما كتبت على الذين من قبلكم إلا أن الرحمة لا زالت تلاحق الإنسان في كل حالاته، فالمريض له عذر خارج عن إرادته، لأنه مرض بقدر الله، فما دام أن مرضه كان بقدر الله فالله رفع التكليف عنه، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:١٨٤].

قوله تعالى: ((أَوْ عَلَى سَفَرٍ)) [البقرة:١٨٤] كان الناس يسافرون في طلب الأرزاق والمعايش، فليسوا كحالنا، فالذي لا يتحرك ولا يسافر يموت جوعاً، فيغربون ويشرِّقون، ويذهبون إلى اليمن والشام والعراق، وغيرها، ويذهبون إلى كل أرض من أجل لقمة العيش، والذي يجلس لا يلقى شيئاً.

يقول الشافعي رحمه الله: سافر تجد عوضاً عمن تصاحبه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب >

إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سار طاب وإن لم يجر لم يطب >

والشمس لو بقيت في الفلك واقفة لملَّها الناس من عجمٍ ومن عرب >

والتبر كالترب ملقىً في أماكنه والعود في أرضه نوع من الخشب >

لما تغرب هذا عز مطلبه وإن تغرب هذا عز كالذهب >

فالعود الموجود هنا يباع بالأوقية، لكن في بلده مثل الخشب، لكن عندما أتى إلى الرياض أصبحت الأوقية بمائة أو بمائة وخمسين، ولو أنه بقي في بلده لم يشتره أحد، وهكذا السفر كان في حياة الناس ضرورياً من أجل المصالح، فالله رفع عن الناس الحرج في السفر؛ لأن المسافر لا يجد وسيلة للراحة، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:١٨٤] هذه -أيها الإخوة- مقدمة عن أصل مشروعية الصيام.