للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصنف الأول: الرابحون في رمضان]

هذا الصنف موفق ورابح وناجٍ، قل ما شئت من العبارات، فهو يفرح برمضان وينتظره انتظار الملهوف، ويعد الأيام والليالي حتى يأتي رمضان فتقر عيناه برمضان، ويتمنى أن تكون السنة كلها رمضان، وإذا خرج رمضان فكأنه في عزاء، وإذا جاء رمضان فكأنه في عيد، ويستقبله أحسن استقبال، وكيف يستقبله؟ لا يستقبله بالطعام، ولا يستقبله بالسهرات، وإنما يستقبله بالتشمير عن ساعد الجد.

فيراجع نفسه ويتوب إلى الله من جميع الذنوب والخطايا، ويكثر من عبادة ربه، ويبحث عن إمام يطول الصلاة ويخشع فيها ويخضع، ثم يصلي معه من أول ركعة إلى آخر ركعة، حاضر القلب، مستقر الذهن، واقف القدم، يمارس العبادة بنشاط وهمة عالية، ولا يأتيها وهو كسلان؛ لأن الكسل من صفات المنافقين، يقول الله عز وجل: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:٥٤].

فإذا سلّم الإمام من الركعتين فقم بعده بنشاط، ولا تتأخر إلى أن يقرأ الإمام نصف الفاتحة أو الفاتحة كلها وبعضهم يتأخر إلى قرب الركوع وبعد ذلك يقوم، لماذا لا تقوم؟ قم، فالله يعينك ولا تتعب، وماذا تخسر؟ بالله كم خسرت أو كسبت يوم جلست وظهرت لك عضلة في ظهرك أو في رجلك؟ لا، هي كلها من الشيطان ويريد أن يفوت عليك الأجر، فقل: أعوذ بالله وقم، فلا يتلاعب بك الشيطان فتتكاسل عن الصلاة، فإذا سلم الأمام سلمت، وإذا قام إلى الصلاة قمت، ولا تتأخر، فإن القلب دال على الجسد، فإذا كان القلب قوي العزيمة فالجسد لا شك أنه سيكون قوي العزيمة وعالي الهمة، أما إذا كان القلب مريضاً ضعيف الإرادة فالجسم لا شك أنه سيكون مثله، نسأل الله السَّلامة والعافية.

وكذلك عليك -يا أخي- أن تتم الصلاة مع الإمام، أما أن تصلي ركعتين ثم تخرج إلى الدنيا فلا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، من صلى مع الإمام حتى يسلم آخر تسليمه من الوتر كتبت له كأنه قام الليل كله، فلو خرجت وتركت الإمام فليس معك إلا ما صليته.

هذا هو الصنف الأول الذين يفرحون في رمضان ويشمرون عن ساعد الجد، ويفرحون بتنظيم أوقاتهم في كثرة الصلاة، الصلاة المفروضة، والتراويح مع الإمام، وبعد ذلك كثرة التلاوة، تلاوة منقطعة النظير، إذا سألت عنه في المسجد وإذا هو يقرأ، كان السلف رضوان الله عليهم إذا دخل رمضان يمتنعون عن مدارسة العلم، ويعكفون على قراءة القرآن باستمرار، حتى أثر أن الشافعي كان يختم القرآن في رمضان ستين ختمة، مرة في الليل ومرة في النهار، فمتى كان يأكل؟! ومتى كان يشرب؟! ليس كأمثالنا، نحن الآن حمير مقاضي، يأخذ الشخص منا الكراتين في المساء، وإذا به في الصباح ينزلها (قمامة) ويأكل منها الثمن والثمن كثير، بينما كان الأولون لا يعرفون هذا كله، يقول الإمام الشافعي: من اشتغل عن العلم بشراء بصلة لم يتعلم.

فتجد الأكل والشرب والمقاضي مصيبة الناس في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهذا يشمر عن ساعد الجد ويبحث عن أول شيء تلاوة القرآن باستمرار، قال لي أحد الشباب: كم؟ قلت: أتصور أن في كل ثلاثة أيام مرة، خصوصاً شبابنا ومدرسينا في هذا الشهر في إجازة وليس عندهم شيء إلا قراءة القرآن.

فعليهم أن يقرءوا القرآن، فينام إلى الساعة العاشرة صباحاً مثلاً، ثم يستيقظ فيصلي الضحى، ثم يقرأ القرآن إلى الظهر، ثم يذهب إلى المسجد فيصلي الظهر ويجلس يقرأ حتى صلاة العصر، ثم يصلي العصر ويقرأ حتى صلاة المغرب، فيصلي المغرب ثم يأكل طعام العشاء ويصلي العشاء، وصلاة التراويح، ثم يقرأ القرآن طوال الليل؛ لأن هذا الشهر شهر القرآن.

يقول الشاعر:

اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن

فهذا شهر القرآن نزل فيه القرآن فلابد أن نقرأ فيه القرآن.

وهذا المشمر شمر في اختزان شيء من مصروفاته الشهرية، وصرفها على الفقراء والمساكين والجيران، وتفقد حالهم ومن يهمه أمرهم، وأهدى لهم، واشترى لهم المقاضي، وأملأ ثلاجاتهم بالخيرات، وبعد ذلك أخذ عمرة في رمضان؛ لأن الحديث في البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أردت أن تحج مع النبي صلى الله عليه وسلم فاعتمر في رمضان، فإنها لا تكلف عليك إلا القليل.

والمشمر في هذا الشهر يشغل ليله بمدارسة العلم، وبزيارة أهل العلم والفضل، وبزيارة الأقارب والأرحام والجيران، فهؤلاء الرابحون في رمضان، ولكنهم قليل، والذي يؤسفنا أنهم قليل.