للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شجاعة سعد]

هذا سعد بن معاذ رجل عظيم، فقبل معركة بدر صف رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش، وكان عليه الصلاة والسلام قد بايع الصحابة من الأنصار أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأموالهم وأنفسهم، وما بايعهم على أن يغزو بهم الناس، وقد قالوا هم: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فخشي في ذلك اليوم ألا يلتزموا بشيء؛ لأنه ليس في رقابهم بيعة على المقاتلة.

فقال: (أيها الناس أشيروا عليّ، فقام المهاجرون وقالوا: نحن معك يا رسول الله! قال: أيها الناس أشيروا عليّ ثلاث مرات، فقام سعد البطل وكان رجلاً طويل القامة أبيض الوجه جميل المحيا، قال: كأنك تعنينا يا رسول الله! قال: نعم.

قال: والله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إن هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا فإنا معكما مقاتلون، ولقد علمت العرب أننا لصدق في الحرب، صبر عند اللقاء، وليرينك الله منا ما تقر به عينك).

أشهد بالله أنه بطل، ثم قال: (والله لئن خضت بنا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل) وفعلاً كانوا صدق في الحرب لا يعرفون الرجوع إلى الوراء.

هذا سعد بن معاذ رضي الله عنه لما كان في يوم الخندق، وكانت عليه درعه، والدرع من حديد، الدروع كانت تصنع من الحديد وهي حلق، وأول من صنعها داود، والله قال له: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:١١] سابغات: أي دروع كاسية، تسبغ الإنسان وتغطيه {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:١١] أي: ضيق في الحلق؛ لأنه كلما كانت الحلق أضيق كان الدرع أقوى، لكن عندما تكون الحلق متباعدة يمكن أن يدخل من هذه الحلقة أي شيء، وهذه من حكمة الصنعة التي علم الله نبيه داود عليه السلام: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:١١].

فكان عليه درع، وخرج منه يمينه؛ لأنه كان طويلاً، فوقع فيه سهم فقطع أكحله -الأكحل العرق- فدعا الله تبارك وتعالى، فقال: [اللهم إن كنت قد أبقيت من قتال أعدائك قريش شيئاً فلا تمتني حتى أقاتلهم، ثم قال: ولا تمتني حتى تحكمني في قريظة] ويهود قريظة في غزوة الأحزاب نقضوا العهد، وخالفوا الأوامر، فلما انتهت المعركة وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينهي المعركة، جاء جبريل، قال: إن الملائكة ما وضعوا السلاح، أنتم انتهيتم من الكفار والأحزاب، لكن بقي المنافقون واليهود الذين تخلفوا ونقضوا العهد.

فلبس عليه الصلاة والسلام سلاحه وقال عليه الصلاة والسلام للصحابة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فمشى الصحابة كلهم، منهم من صلى في بني قريظة تبعاً للأمر، ومنهم من أدركته الصلاة قبل بني قريظة فصلى في وقته، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم على فقههم واجتهادهم، وبعد ذلك قبض على الرجال من اليهود من بني قريظة، وبعد ذلك قال: (اختاروا حكماً) قالوا: نحكم سعداً، وكان سعد حليفهم في الجاهلية، فظنوا أن حكم سعد سيكون خفيفاً؛ لأنه حليف، والحلف في العرب معروف أنه رابطة قوية، لكن جاءت رابطة الدين فنقضت كل رابطة، ولم تبق إلا رابطة الدين فقط.

فقال سعد لما جاءوا به وكان يعالج في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في خيمة قد نصبت له في المسجد، وكان يعالجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشرف جرحه على الاندمال، فجاءوا به على حمار حتى أدخلوه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بني قريظة، قال: (هذه قريظة تريد أن تحكمك فاحكم فيها بحكمك) -احكم فنحن نازلون على حكمك وهم راضون بحكمك- قالوا له: يا سعد أنت حليفنا ورفيقنا ونحن قبلنا حكمك، قال: قبلتم حكمي، قالوا: نعم.

قال: [لقد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم]، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.

انظروا الطراز العظيم، لا تأخذه في الله لومة لائم (إني أحكم بقتل رجالهم، وسبي أموالهم وذراريهم -الله أكبر! - قال صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات) ثم حفر الحفر وجاء بالجلادين، وأتوا بهم واحداً واحداً، حتى خرج حيي بن أخطب، خرج وكان زعيمهم وعليه ثوب جميل، وبردة حرير، فخرق الثوب كله قالوا له: لماذا؟ قال: لا أريد أن يلبسوه بعد قتلي لا يريد أن يلبس المسلمون ثوبه بعد قتله، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك فجر الله أكحل سعد، بعد ما أكمل الحكم ومات شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.