للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دحض شبهة الاحتجاج بالقدر على المعصية]

نرى أنه لا حجة للعاصي حين يعصي بقدرة الله عز وجل، كما يفعل بعض الزناة أو العصاة، فيقول: أنا أعصي لأن الله قدر عليَّ.

فالعاصي يقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله قدرها عليه، فلا يعلم أحد قدر الله إلا بعد وقوعه، فكيف يصح الاحتجاج بحجة لا يعلمها المحتج.

فالذي يعصي ويزني هل عرف واطلع على الغيب، ونظر في اللوح المحفوظ، وعرف أن الله قدر عليه هذه المعصية فعملها؟ لا.

وقد رد الله عز وجل على من قال هذا الكلام وسماه مشركاً في سورة الأنعام، يقول الله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الأنعام:١٤٨] سماهم الله مشركين، ولهذا أنا أحذر كل مسلم أن يخطر في باله أو يدور على لسانه مثل هذه الكلمة، فيعمل شيئاً من المعاصي ويقول: قدر الله عليَّ، مثل شارب الخمر الذي جيء به إلى عمر فقال له: [لماذا تشرب الخمر؟ قال: قدر الله عليَّ، قال: اجلدوه ثمانين سوطاً، فلما جلدوه قال: وأنا قدر الله عليَّ أن أجلدك ثمانين سوطاً].

يقول أحدهم: إنه كان في الشام، فوقع في الزنا، فلقيه زميله، فقال له: لماذا تزني؟ قال: مقدر علي أن أزني، فهل ترد قضاء الله وقدره، فإذا بصاحبه يصفعه، فقال له متسائلاً: لم صفعتني؟ قال: قدر الله عليَّ أن أصفعك.

قال: وإذا بالرجل انتبه، قال: كيف ترضى بقضاء الله وقدره في الزنا ولا ترضى بقضاء الله وقدره في الصفعة؟ فأنت زنيت باختيارك وأنا صفعتك باختياري.

فالعاصي يقول كما يحكي الله عنه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:١٤٨] أي: هذا كلام الكفار السابقين، يقولون: لو شاء الله ما فعلنا، وما زنينا، وما أشركنا، فسماهم الله مشركين، ثم قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ} [الأنعام:١٤٨] يعني: هذه المقالة وهذا الزعم: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام:١٤٨] أي: أجدادهم القدريون المحتجون بالقدر: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام:١٤٨] يعني: عذابنا في النار {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:١٤٨] أي: هل اطلعتم على اللوح المحفوظ ورأيتم القضاء والقدر، وما كتب لكم فعملتموه بناءً على رؤيتكم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:١٤٨ - ١٤٩] أي: الحجة البالغة الدامغة لله على خلقه حيث أعطاهم القدرة على الاختيار، وأمرهم بالطاعة ونهاهم عن المعصية، وأنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وفطرهم على الدين، وأبان لهم الطريق مثل الشمس في رابعة النهار: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ} [الأنعام:١٤٩] أي: لو شاء لسلبكم الإرادة والاختيار، ولجعلكم مسيرين في أداء العبادة، ولكن الله كرمكم وشرفكم فأعطاكم القدرة ولم يسلبكم الإرادة، فاستعملتم هذه القدرة وهذا التكريم في معصية الله عز وجل: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:١٤٩] * {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١٥٠] ثم قال الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، قل يا محمد: تعالوا أبين لكم وظيفتكم وعملكم ورسالتكم، أما غير ذلك فليس أمره إليكم، بل أمره إلى الله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:١٥١]، ثم ذكر هذه الوصايا العشر.

فهنا لا حجة للعاصي، فكيف يصح الاحتجاج بحجةٍ لا يعلمها؟ ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لماذا لم تقدم على الطاعة مقدراً أن الله كتبها لك؟ لأن المعصية والطاعة في الجهل بتقديرها سواء.

فأنت لا تدري أكتب الله عليك خيراً أم شراً، فلماذا افترضت أن الله كتب عليك الشر؟ لماذا لم تقدر أن الله كتب عليك الخير، وصرت مصلياً وطائعاً وباراً ومجاهداً؟ لماذا احتملت الاحتمال الأسوأ وقلت: إن الله قد قدر ذلك عليَّ؟ ما فعلت ذلك إلا لانهزامك أمام شهواتك، ولأنك عبدٌ لشهواتك ونزواتك.

ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل واحد قد كتب مقعده من الجنة أو النار، قالوا: (أفلا نتكل؟ -قالوا: إذاً نتكل ما دام أنها محددة مسبقاً- قال: لا.

اعملوا -هذه وظيفتكم- فكل ميسر لما خلق له).

ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لو كنت تريد السفر إلى مكة، وقال لك أحدهم: هناك طريقان: طريق سهل موصل، وطريق صعب ينطوي على مخاطر؛ فإنك دون شك ستسلك الطريق السهل، ولن تسلك الآخر، وتقول: إنه مقدر عليَّ.

وكذلك لو عرض عليك وظيفتان: إحداها ذات مرتب كبير، فإنك سوف تعمل فيها، ولن تختار ذات المرتب القليل.

فكيف تختار لنفسك في عمل الآخرة ما هو أدنى وتترك ما هو أفضل؟! ونقول: إذا أصبت بمرض جسمي؛ فإنك بعقلك تطرق أبواب الأطباء، وتصبر على ما ينالك من آلام الجراحة والعمليات والدواء، فلماذا لا تفعل ذلك في مرض قلبك بالمعاصي؟ هذه أدلة على أن العبد يملك اختياراً وإرادة، وعلى أساسها كلفه الله، وعلى أساس التكليف توعده الله بالنار إن عصى، ووعده بالجنة إن أطاع.

نقف عند هذا القدر، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يزيدنا وإياكم إيماناً ويقيناً.

وطلب بعض الإخوة أن يغير موعد هذا الدرس إلى وسط الأسبوع، وقالوا: إن معظم الطلاب في الجامعات يذهبون إلى أهاليهم في جيزان، والباحة، ونجران، وظهران الجنوب؛ يومي الخميس والجمعة ويجدون صعوبة في الاستمرار طوال الأسبوع، ولكن حين يكون الدرس خلال الأسبوع فهو أفضل.

ولذا إن شاء الله سيكون الدرس في الأسبوع القادم بعد أذان المغرب من يوم الإثنين، بدلاً من يوم الخميس.

نسأل الله التوفيق لنا ولكم، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.