للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال الدنيا]

الحمد لله جعل في تعاقب الليالي والأيام عبرا، وفي تصرم الشهور والأعمار نذرا، أحمده تعالى وأشكره على نعم تترى، وعلى منن لا نطيق لها حصرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لنا يوم المعاد ذخرا، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المخصوص بالفضائل الكبرى، والمبعوث إلى الخليقة طُرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أطيب الخليقة ذكرا، وأرفعهم قدرا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن تقواه سبحانه وصيته جل وعلا للأولين والآخرين من عباده، يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١].

عباد الله: وقفات تساؤل تتبعها لحظات تأمل، تعقبها وقفات محاسبة، ونحن نعيش في ختام هذا العام.

عباد الله! أرأيتم إلى الشمس كل يوم تطلع من المشرق وتجري إلى أن تغرب، أرأيتم عباد الله إلى القمر يهل صغيراً ثم ينمو رويداً رويداً حتى يكون بدراً متكاملاً ثم يأخذ نموه بالنقص والاضمحلال، ألم تروا عباد الله إلى المطر ينزل على الأرض الهامدة فتزهو وتخضر ثم ما تلبث أن تكون هشيماً يابساً، ترى الزهرة متفتحة فواحة الشذى فما تلبث أن تذبل وتعبث بها عوامل الردى، ترى الشاب يمتلئ حيوية ونضارة، فما يلبث أن يشيب ويهرم، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

هذه حال الدنيا يا عباد الله! التي يستغرق فيها بعض الناس ويضيعون الآخرة، لينالوا بعض متاع هذه الحياة الدنيا، مع غرور طول الأمل ونشوة الفرح والانشغال بالأموال والأولاد، هذه هي الدنيا لا راحة فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات ولا استقرار، حوادثها كثيرة، والناس عنها في شغال، عبرها غفيرة والناس عنها غافلون: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:١ - ٣] طلوع وأفول، ودول تبنى وأخرى تزول، وممالك تشاد وأخرى تباد، ومدن تعمر وأخرى تدمر، وسبحان من يغير ولا يتغير! فواعجباً لهذه الدنيا كيف خدع بها الناس وهي كغمضة عين أو لمحة بصر أو ومضة برق! كيف غرهم طول الأمل فيها! وهي كما أخبر الله سبحانه لعب ولهو وزينة وتكاثر وتفاخر، سراب خادع، وبريق لامع، لكنها سيف قاطع، كم أذاقت بؤسا، وكم جرعت غصصا، وكم أذاقت نغصا، كم أحزنت فرحا، وأبكت مرحا، وكدرت صفوا، وشابت معينا.

سرورها مشوب بالحزن، وفقرها مشوب بالكدر، ساحرة غرارة، خادعة مكارة، كم هرم فيها من صغير، وذلَّ فيها من عزيز، وتلف فيها من وزير، وفقر فيها من غني، أحوالها متبدلة، وشئونها متغيرة، فلا ترى فيها إلا راحلاً إثر راحل، وهالكاً خلف هالك، ما هي إلا أيام معدودة، وأنفاس محدودة، وآجال مضروبة، وأعمال محسوبة، وإن طالت في نظر المخدوعين بزخرفها، المفتونين بشهواتها، الراكنين إلى لهوها وغرورها.