للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإخلاص في الدعوة والعقيدة]

كذلك على الدعاة إلى الله أن يسلكوا السلوك الصحيح في الدعوة، وكذلك الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ وليكون أقرب لهم إلى الإخلاص أن يدعو لا ليقول الناس: فلان قويٌ في الحق، أو شجاع، أو أنكر ما لم ينكره غيره، أو تكلم بكذا، أو عُدت أشرطته، أو عد من يحضروه في الحلقة! فهذه ليست هذه مقاييس، وإنما المقياس هو المنهج الصحيح على الكتاب والسنة، وعلى فهم السلف الصالح، والأخذ من العلماء الربانيين، ذوي العمق العلمي، والعقيدة الصحيحة، والتجربة الطويلة في الدعوة إلى الله.

أيضاً: على المسلم أن يكون مخلصاً في عمله وفي وظيفته، ومخلصاً في جوانب العقيدة كلها، ومن جوانب العقيدة: أن يكون إخلاصه لله، مبنياً على متابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص وحده لا يكفي بل لا بد من المتابعة، ولا بد أن يكون العمل على وفق السنة، الأقوال والأعمال لا بد أن تكون على وفق السنة العلم والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، أن يكون على منهجٍ سليم وعلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذكر والعبادة ينبغي أن يكون على وفق السنة، فما نفع كثيراً من الناس إخلاصهم لمبادئهم لما لم يتابعوا فيها السنة.

فانتبهوا أيها الإخوة! لأن هذين الأمرين شرطان في قبول العمل؛ فإخلاصٌ بلا متابعة لا فائدة فيه، ومتابعة بلا إخلاص لا خير فيها، ولا تكون متابعة إلا إذا توفر فيها الإخلاص لله، كما قال الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:٢].

قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:٢] قال: [[أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي! وما أخلصه وأصوبه؟ قال: أخلصه: أن يكون لله، وأصوبه: أن يكون على منهج محمدٍ صلى الله عليه وسلم]].

وقد قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:١١٠]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:١٢٥] قال المفسرون: (أسلم وجهه لله): بإخلاص العمل لله.

(وهو محسن) أي: متبعٌ للسنة.

فيا أيها الإخوة! حياتنا كلها لا خير فيها إن لم يتحقق فيها جانب الإخلاص.

ويا أيها العلماء! عليكم أن تخلصوا لله، ولتجمعوا قلوبكم على منهج محمد بن عبد الله.

ويا طلبة العلم! إنه ليس من الإخلاص أن تُعمر المجالس للوقيعة في بعضكم بعضاً، فالإخلاص إخلاصٌك في الدعوة أن تنكر المنكر على أيٍ كان بينك وبينه، ولا تشهر بأحد ولا تدعو إلى اتباع السوءات والنقصات وتكبر وتضخم الهِنات، فالناس بشر كلهم يخطئون ويصيبون؛ لكن عليك أن تناصح إخوانك -في الله- فيما بينك وبينهم، وإن لم يرضوا فالحق يسع الجميع في المسائل الاجتهادية.

أما في مسائل الأصول وفي قضايا الاعتقاد فالحق فيها واحد، ينبغي أن يجتمع الناس عليه، ولا يسع الخلاف في القضايا الأصلية وقضايا الاعتقاد.

وإننا لنحمد الله -تبارك وتعالى- أن هيأ في هذه البلاد العلماء الصادقين المخلصين -نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً- فينبغي على شبابنا أن يلتحموا معهم، وعلى طلابنا أن يستفيدوا منهم، ومن منهجهم، أعمارهم كلها في الدعوة، ستون سنة، وخمسون سنة، ومع ذلك مخلصون فيها لله، ينصحون لله ولرسوله ولكتابه ولولاة الأمر وللعامة، كلٌ في مجاله؛ ليكون ذلك أقرب وأدعى إلى الإخلاص وقبول النصح وأدعى إلى إنكار المنكر.

أما الإنكار العلني فإنه في الحقيقة له أضرار ومفاسد، وليس من الحكمة أن ينبه على أخطاء الناس في المجامع العامة، فالسنة أن يقال: ما بال أقوام؟ لكن فيما بينك وبين ولي الأمر، وفيما بينك وبين المنصوح أياً كان؛ فإنك تنبهه على خطائه بالحكمة والموعظة الحسنة على درجات الإنكار المعروفة، لكن في المجامع العامة يُحذِّر الناس عن الشرك، وعن الرياء، ويحذرون عن ترك الصلاة، وعن كل ما يخالف العقيدة، يحذرون من المحرمات: كالقتل، والربا، والزنا، والمفاسد الأخلاقية كلها يحذرون منها، لكن ينبغي أن يضع الحكيم نفسه، وأن يضع في كل موضعٍ موضعه، وفي كل مقامٍ مقال، ليكون أدعى لقبول عملك وإخلاصه لله، لأن هؤلاء الكثرة الذين يأتون إليك وينظرون إليك كلهم ينظر ما تقول، وبعد ذلك يخرج ليقول: قال فلان كذا، وفلان اليوم لم يُقصِّر في كلمته وتكلم بكذا! لا، ليس المراد هذا؛ بقدر المراد ما يكون منهج صحيح وسليم يحق الحق ويبعد الضرر عني وعنك وعن الدعوة وفيه -أيضاً- إخلاص لله ولرسوله ولولاة أمر المسلمين، بالدعاء لهم بالإخلاص والصلاح والهداية، لأن المسلم لا يدعو لهم لما عندهم من الدنيا، فالدنيا يأتي بها الله، رضي أولئك أم لم يرضوا، ولكنه يدعو لهم قربة إلى الله، عقيدة يعتقدها، وديناً يدين لله به، فإذا صلح ولاة أمر المسلمين صلح الناس.

وهكذا ينبغي علينا أيها الإخوة! أن نتواصى في هذا الطريق، وأن نسلك طريق الإخلاص، وأن نعلم أن كثيراً من المشكلات والفتن والمحن التي حلت بأمة الإسلام ما هي إلا نتيجة لمؤثراتٍ جانبت الإخلاص، ولا ينبغي أن يحكم على أحدٍ بعينه، فليتنبه لهذا جيداً، ولكن {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠] وقد يبتلي الله العبد، فالابتلاء سنة وتمحيص ورفعة في الدرجات، وتكفيرٌ في السيئات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ابتلي، والصحابة لما وقع منهم ما وقع في غزوة أحد قال لهم الله عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:١٦٥] لم يقل: هذا من بطش العدو، وهذا من كيدهم، وإنما قال: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:١٦٥].