للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخشوع في الصلاة عند السلف]

أمة الإسلام! لقد مدح الله المؤمنين وأثنى عليهم ووصفهم بالخشوع له في أجلِّ عباداتهم، ورتب على ذلك الفوز والفلاح، فقال جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:١ - ٢].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح.

وقال ابن رجب: وأصل الخشوع: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحُرْقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح؛ لأنها تابعة له.

وقد رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة فقال: [[لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه]] رُوِي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب، ويُرْوَى مرفوعاً لكن بإسنادٍ لا يصح.

وفي معنى الخشوع في الصلاة يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[هو الخشوع في القلب وأن تُلِيْنَ كنفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك يميناً ولا شمالاً]].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:٢] قال: [[خائفون ساكنون]].

وعن الحسن رحمه الله قال: [[كان الخشوع في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح]].

وقال ابن سيرين: [[كانوا يغضون أبصارهم إلى موضع سجودهم]].

وحُكِي أن مسلم بن يسار أنه كان يصلي في مسجد البصرة، فسقط حائط المسجد، ففزع أهل السوق لهدته، فما التَفَتَ، ولما هُنِّئ بسلامته عَجِبَ وقال: ما شعرتُ به.

الله أكبر! هذا هو منهج السلف الصالح رحمهم الله، الذين كانت قلوبهم تستشعر رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى جميع الجوارح، وكل الحركات والملامح، ويغشى أرواحهم جلال الله وعظمته، وهم يقفون بين يديه، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل عندما يشتغلون بلذيذ المناجاة للجبار جل جلاله، ويتوارَى عن حسهم في تلك الحالة كلُّ ما حولهم، فيتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة، وعندئذٍ تتضاءل الماديات، وتتلاشى جميع الدنيويات، وحينئذٍ تكون الصلاة راحةً قلبيةً وطمأنينةً نفسيةً وقرة عين حقيقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه: {وجُعِلَت قرة عيني في الصلاة}.

وفي المسند وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قُمْ يا بلال! فأرحنا بالصلاة} رواه أحمد وأبو داود.

الله أكبر! إنها الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة؛ لكي تشعر من خلال أدائها أنها تناجي من بيده ملكوت كل شيء.

وأن المصلي حينما يكبر ويرفع يديه؛ إنما هو تعظيم لله.

وإذا وضع اليمنى على اليسرى؛ فهو ذل بين يدي مولاه، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: هو ذلٌّ بين يدي عزيز.

وإذا ركع؛ فهو إقرار بعظمة الله.

وإذا سجد؛ فهو تواضعٌ أمام علوِّ الله، وهكذا يكون المسلم في صلاته يوثق الصلة بمولاه؛ ليفوز بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه: عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من امرئ مسلم تحضره صلاةٌ مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم تؤتَ كبيرة، وذلك الدهر كله}.