للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الإفراط والتفريط]

إخوة الإيمان: ولم تكن حاجة الأمة في عصرٍ ما إلى معرفة السيرة العطرة معرفة اهتداءٍ واقتداء أشد إليها من هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمة أمواج المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلبت فيه الأهواء، واستحكمت الزعوم والآراء، وواجهت فيه الأمة ألواناً من التحديات، وصنوفاً من المؤامرات، من قبل أعداء الإسلام على اختلاف مللهم ونحلهم، يتولى كبر ذلك من لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، من اليهود الصهاينة، ويوالي مسيرتهم دعاة التثليث وعباد الصليب، ويشد أزرهم المفتونون بهم، والمتأثرون بصديد أفكارهم وقيح ثقافاتهم من أهل العلمنة ودعاة التغريب.

ويزداد الأسى حينما يجهل كثيرٌ من المسلمين حقائق دينهم، وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيصٍ ولا تحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وحينما يضرب المثل في ذلك على نظرة كثيرٍ من المسلمين للسيرة العطرة فإنك واجدٌ العجب العجاب.

ففئاتٌ تغلو في الجناب المحمدي وترفعه إلى المقام الإلهي، وفئات تجفوا وتعرض، والميزان الشرعي في ذلك توجيهه صلى الله عليه وآله وسلم لأمته بقوله: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا: عبد الله ورسوله} خرجه البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه فهو عليه الصلاة والسلام ليس إلهاً فيعبد، ولا رباً فيقصد، وإنما هو رسول يطاع ويتبع.

من الناس من نظر إلى السيرة النبوية على أنها قصصٌ تورد، وروايات تسرد، دون متابعة واقتداء فلا تحرك قلوباً، ولا تستثير همماً.

وأبو القاسم محمدٌ صلى الله عليه وسلم فوق كونه عظيماً من عظماء التاريخ؛ فإن شرف النبوة وتاج الرسالة هو الذي يحتم له المحبة والاتباع، وإن صلة الأمة وارتباطها برسولها وحبيبها صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة ليس ارتباط أوقاتٍ ومناسبات، ولا حديث معجزاتٍ وذكريات، بل إنه ارتباطٌ وثيق في كل الظروف وجميع الشئون وأحوال الحياة إلى الممات.

وشخصيته صلى الله عليه وسلم ليست شخصية مغمورة في زوايا السير، ولا مطمورة في جنبات التاريخ، تروى قليلاً وتطوى كثيراً حاشاه عليه الصلاة والسلام فداه أبي وأمي بل إن ذكره يملأ الآفاق، والشهادة برسالته تدوي عبر المآذن والمنابر، وتنطلق عبر الحناجر والمنائر، والمسلم الذي لا يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في علمه وعمله وتفكيره في كل لحظة من لحظاته لا يغني عنه أبداً التغني بسيرته، ولا صياغة النعوت في مدائحه، وليس هناك أغلى وأعلى من مدح ربه جلَّ وعلا له وثنائه عليه.

وما جنح بعض المسلمين إلى مثل هذا اللون في الإفصاح عن تعلقهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم إلا يوم أن زهدوا في الثوابت واليقينيات، وانبهروا بالمظاهر والشكليات، وتركت نفوسهم الجد والعزمات، واستسلمت للتواني والدونيات، فالجهد الذي يتطلب العزائم هو: الاستمساك والاقتداء، فينهض المسلم الجاد إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه؛ حتى يحقق الاقتداء والاهتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى يترجم تلك الدعاوى إلى واقعٍ عملي في كل شئونه في معاشه ومعاده، في حربه وسلمه، في علمه وعمله، في عباداته ومعاملاته وإن تحويل الإسلام إلى هزٍ للرءوس، وجمود على مظاهر وطقوس، يصاحب ذلك تعلقٌ بأذكارٍ وتسابيح، وترنمٌ بقصائد وتواشيح؛ لشيءٌ عجيب يحار العقل في قبوله!

والأدهى من ذلك أن تكون هذه الأمور معايير لصدق المحبة وعدمها، ومقاييس يُرمى كل من تركها واستبان عوارها بتنقصه لجناب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وتلك شنشنة معروفة من أخزم، فحب رسولنا صلى الله عليه وسلم يتغلغل في أعماق نفوسنا، ويتربع في سويداء قلوبنا، ولا يغيب حبه إلا من قلب أهل النفاق والزندقة، ونشهد الله الذي لا إله غيره أنه أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا وأولادنا والناس أجمعين كيف لا ومحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم دينٌ يدين لله بها كل من تشرف للإسلام؟! بل لا يستحق أحدٌ شرف الإيمان إلا بتحقيقها، يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} خرَّجه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه.

وعند البخاري من حديث عمر رضي الله عنه قال: {قلت: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيءٍ إلا من نفسي.

فقال: والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك.

فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر}.