للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سمة الوسطية في هذه الأمة]

الحمد لله تفرد بالربوبية والألوهية كمالاً، واختص بالأسماء الحسنى والصفات العلى جلالاً، أحمده تعالى وأشكره على سوابغ نعمه إفضالاً، وجزيل عطائه نوالاً، وأسأله المزيد من فضله دعاءً وابتهالاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالتمسك بالإسلام وسطية واعتدالاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث بأوسط شريعة وأكملها خلالاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أكرم بهم صحباً وأنعم بهم آلا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً تترى غدواً وآصالا.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، تحلوا بها أقوالاً وأفعالاً، فكم أورثت مالاً، وتوجت جمالاً، وشرفت خصالاً، ووقت زيغاً وضلالاً، وأصلحت حالاً ومآلاً.

أيها المسلمون: من الحقائق والمسلمات لدى ذوي البصائر والحجا، أنه بقدر تمسك الأمم بمميزاتها الحضارية، والتزام المجتمعات بثوابتها وخصائصها القيمية؛ بقدر ما تحقق الأمجاد التأريخية والعطاءات الإنسانية، ولئن برزت في عالمنا المعاصر صور وظواهر من الانحرافات تهدد الأمن الدولي، وتعرض للخطر وعدم الاستقرار السلام العالمي؛ فإن مرد ذلك إلى التفريط بالمبادئ الحضارية، والتهاون بالمثل والقيم الإنسانية.

ومن يجيل النظر في جوانب عظمة هذا الدين الذي أكرمنا الله به وهدانا إليه -وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله- يجد أن هناك سمة بارزة، وميزة ظاهرة، كانت سبباً في تبوء هذه الأمة مكانتها المرموقة بين الأمم، ومنحها مؤهلات القيادة والريادة للبشرية، ومقومات الشهادة على الناس كافة، لعلكم يا رعاكم الله، أدركتم ما هذه الميزة الحضارية

إنها سمة الاعتدال والوسطية، التي تجلي صور سماحة الإسلام، وتبرز محاسن هذا الدين، ورعايته للمثل الأخلاقية العليا والقيم الإنسانية الكبرى، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:١٤].

ولما كان من الضرورة بمكان تحديد هذا المصطلح على ضوء المصادر الشرعية، منعاً للخلط في المفاهيم واللبس في التصور، وحتى نقف على حقيقة الوسطية ومجالاتها لنظهر الصورة المشرقة لسماحة هذا الدين، في الوقت الذي اشتدت فيه الحملة على الإسلام ورمي أتباعه بمصطلحات موهومة، وألفاظ مغرضة، لتشويه صورته والتنفير منه؛ تصيداً لأخطاء بعض المنتسبين إليه، في زمن انقلبت فيه الحقائق وانتكست فيه المقاييس، وبلي بعض أهل الإسلام بمجانبة هذا المنهج الوضاء، فعاشوا حياة الإفراط والتفريط، وسلكوا مسالك الغلو أو الجفاء، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والمنبَتُّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

معاشر المسلمين: ولقد عني علماء الإسلام ببيان حقيقة الوسطية الواردة في آية البقرة، وهي لا تخرج عن معنيين مشهورين يؤديان معنىً واحداً.

أولهما: (وسطاً) أي خياراً عدولاً، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم:٢٨] وقول الأول:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

وهو قول جمهور المفسرين، والذي رجحه الإمامان الحافظان ابن جرير وابن كثير رحمهما الله.

والثاني: أنهم وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، جاء هذا في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية.

والوسطية يا عباد الله! منهج سلف هذه الأمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم.

ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله: إن الشريعة جارية في التكليف لمقتضاها على الطريق الوسط العدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، فإذا نظرت إلى كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط والاعتدال، ورأيت التوسط فيها لائحاً ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه.

ويقول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: وعلى الجملة فالأولى بالمرء ألا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلب مصلحة، أو درء مفسدة مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير.

ويقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: ما من أمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى غلو وإما إلى تقصير، والحق وسط بين ذلك.