للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تورع السلف في الفتوى]

إخوة العقيدة! لقد رسم السلف الصالح رحمهم الله المسلك الوضَّاء في هذه القضية، ديانةً وتثبتاً وورعاً، فهذا أعلم الأمة وسيدها وإمامها صلى الله عليه وسلم، يسأل عما لم ينزل عليه فيه وحي، فينتظر حتى ينزل عليه الوحي، وآيات يسألونك في الكتاب العزيز غير قليلة، وهكذا كان الأجلاء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه وقد سأل عن معنى آيه من كتاب الله يقول: [[أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟]] وهذا عمر رضي الله عنه تنزل به الحادثة فيجمع لها أكابر الصحابة ويستشيرهم فيها.

قال ابن سيرين رحمه الله: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [[إن استطعت أن تكون أنت المُحَدَّثَ فافعل]] وقال رضي الله عنه: [[إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون]].

وقال أيضاً: [[من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم]].

ورحم الله الإمام الشعبي حينما سئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقال له أصحابه: إنا نستحي لك من كثرة ما تسأل فتقول: لا أدري، فقال رحمه الله: لكن ملائكة الرحمن لم يستحيوا إذ سئلوا عما لا علم لهم به فقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:٣٢].

وكان عطاء بن أبي رباح يقول: لا أدري نصف العلم.

وقال بعضهم: إذا نسي العالم كلمة لا أدري فقد أصيبت مقاتله.

وكان أبو عبيدة إذا سئل يتمثل قول الشاعر:

يا رب لا أدري وأنت الداري كل امرئ منك على مقدار

وفي تدافع الفتوى وذم المسارعة إليها أورد ابن عبد البر رحمه الله قول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى.

وهذا إمام دار الهجرة رحمه الله يقدم عليه رجل من مسافة بعيدة، فيعرض عليه أربعين مسألة، فيجيب عن أربع منها ويقول في ست وثلاثين مسألة منها: الله أعلم.

فيقول له الرجل: أنت مالك بن أنس، إليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد، وقد جئتك من مسافة بعيدة وتقول: الله أعلم! ماذا أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟! قال: تقول لهم: إن مالكاً يقول: الله أعلم.

وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يسأل فيتوقف، أو يقول: لا أدري، أو نحو ذلك.

وقال سحلول بن سعيد: أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.

وكان إذا سئل رحمه الله يقول: إنما يفتي الناس مفت أو أحمق، وأنا لست بمفت ولا أريد أن أكون الآخر.

وقال بشر الحافي: من أحب أن يسأل فليس بأهلٍ أن يسأل.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: كل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها، إلا قل توفيقه واضطرب في أمره، وإن كان كارهاً لذلك غير مختار له وما وجد ممدوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتاويه وجوابه أغلب.