للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سبب عزة الأمة في عصورها المتقدمة]

الأمر الثالث يجب علينا أن نعود إلى أصول ديننا وأصول عزتنا، والأمة الإسلامية في عصورها المتأخرة لم تجرب هذا العلاج الذي هو مصدر عزتها التجربة الكاملة، بحيث تُربى عليها النفوس، وتُربى عليها الأسر، وتُربى عليها الأمة، فوالله لو عاد المسلمون إلى دينهم حق العودة لكان لهم بين الأمم شأن آخر.

ونحن لا نقول هذا الكلام من عند أنفسنا، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:٥١]، ويقول تبارك وتعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:٤٧]، ولماذا نقول هذا وأمامنا التاريخ يشهد بالحقائق وينطق بها؟ ألم يكن أهل هذه الجزيرة في مكة وفي غيرها يعيشون أذلة بين الأمم؟ ألم يكونوا قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أذلة يقتل بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، ويعبدون الأصنام من دون الله؟ بل كان الواحد منهم يصنع إلهه من التمر ويعبده أول نهاره، فإذا أمسى وجاع أكله، ألم يكونوا أذلة أمام كسرى وقيصر وأصحاب الحبشة وغيرهم؟ ألم يكونوا على تلك الذلة؟ فما الذي رفعهم؟! هل رفعتهم جاهلية قومية كما ينادي بعض أدبائنا ومفكرينا بالعودة إلى القومية الجاهلية المسماة بالعروبة؟ وهل رفعهم كثرة المال؟ وهل رفعتهم قوتهم البدنية والقبلية وغيرها؟

الجواب

لا والله.

ما ارتفع أولئك الركب الكرام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما انتقلوا من حظيرة الجاهلية إلى عز الإسلام إلا بالإيمان، وهذا شاهد اجعله أمامك في كل وقت وفي كل آن، فإنه لما نطق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في أرجاء مكة قائلاً للناس: (أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، إني رسول الله لكم بين يدي عذاب شديد)، وصرخ بها عليه الصلاة والسلام في وجه الجاهلية لوحده، ولما أن بدأ أصحابه يكثرون، ونشأ الإسلام في مكة، وصار الواحد من المسلمين يخالف أباه وأمه وأقربائه إذا اختلف معهم في العقيدة تغير الميزان، وظن الجاهليون -كما يظن الجاهليون اليوم- أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان داعية ملك يريد أن يحكم العرب، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً يقول له: إن أصحابك من قريش -أي: من زعماء قريش- عند الكعبة يريدونك.

فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هؤلاء الزعماء أرادوا الدخول في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً كل الحرص على أن يدخل قومه في الإسلام، فأتى إليهم عليه الصلاة والسلام مسرعاً، فلما وقف عليهم قالوا له: يا محمد! لقد أتيت قومك بأمر عظيم، سفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وفرقت به جماعتهم، فتعال -يا محمد- لنعرض عليك أموراً.

قال: (قولوا، وأنا أسمع).

قالوا: يا محمد! إن كنت تريد بهذا الذي تدعو إليه ملكاً ملكناك علينا، وإن كنت تريد بهذا الذي تدعو إليه شرفاً سودناك علينا حتى صرت السيد المطاع فلا نقطع بأمر دونك، وإن كنت تريد بهذا الذي تدعو إليه مالاً جمعنا لك من الأموال حتى تصير أكثرنا مالاً.

وهذه هي عروض الجاهلية في كل زمان ومكان، فالقوميون اليوم يقولون: الوحدة العربية وبعدها الوحدة الإسلامية.

ومن طلب العز بغير الدين أذله الله، فالعز بالوحدة العربية ذل؛ لأنه لا عز إلا بالإسلام.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما جئت أريد ملككم، ولا الشرف فيكم، ولا أموالكم، ولكنني جئت أدعوكم إلى كلمة واحدة تدين لكم بها العرب وتخضع لكم بها العجم).

فقام أبو جهل ومعه بعض كبار المشركين، وقالوا: يا محمد! تريد كلمة واحدة؟! نحن نعطيك عشر كلمات.

أي: وتنهي المشكلة.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله).

فصاحوا جميعاً صيحة واحدة، وقالوا: أما هذه فلا.

ورفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله.

إذاً: عتاة الجاهلية رفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، ولكن الصحب الكرام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين قالوها، وما زال الإسلام ينتشر وينتصر حتى امتدت الفتوحات الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها، ودك المسلمون قصور كسرى وقيصر مهللين مكبرين رافعين رؤوسهم؛ لأنهم قالوا: لا إله إلا الله، وهي قولة حق وصدق وإخلاص، فعملوا بمقتضاها، ولم يرتكبوا ما يناقضها، فأعزهم الله ورفع شأنهم.

ولما كان المسلمون في تلك الفتوحات يخوضون غمار المعارك في بلاد فارس طلب قائد الفرس من المسلمين أن يرسلوا رسولاً ليكلمه، فأرسل إليه القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد الصحابة، فخرج هذا الصحابي إلى إيوان القيادة الفارسية، ودخل عليهم وبيده سيف، وهو معتز بإيمانه، وصار يمشي ويخرق السجاجيد بسيفه حتى وقف عنده.

فقال له قائد الفرس: ما الذي جاء بكم؟ لقد عهدناكم صعاليك تتقاتلون فيما بينكم وترسلون إلينا لنحكم فيكم، ما الذي جاء بكم وغير أحوالكم حتى جئتم إلينا تريدون ديارنا؟ فقال الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

وقوله: (من ضيق الدنيا) لأن الكافر عنده الدنيا هي كل شيء، ولذا فهو ضائق بها؛ لأنه لا يرى في الدنيا إلا ما التذ به فقط، فهو يريد أن يعب من شهواته في دنياه؛ لأنه لا أمل له في الآخرة، لكن الإسلام نقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وما أوسع الدنيا عند المؤمن بالله سبحانه وتعالى! إن صحَّ عبد الله وحمده وشكره، وإن اغتنى عبد الله وحمده وشكره، وإن افتقر حمد الله وشكره وصبر، وإن مرض وجئته وهو مريض يقول لك: الحمد لله، ما ضاقت به الدنيا؛ لأنه حتى لو جاءه الموت يعلم أن الدنيا ليست هي نهاية المطاف، ولذا فهو نقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>