للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من أقوال السلف في باب القدر]

بعد هذا ننتقل إلى فقرة نذكر فيها نماذج من أقوال السلف رحمهم الله تعالى في باب القدر.

روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح إلى خالد الحذاء قال: قلت للحسن البصري: يا أبا سعيد! أخبرني هل آدم للسماء خلق أم للأرض؟ قال: لا، بل للأرض.

قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له منه بد.

قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:١٦٢ - ١٦٣]؟ قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله عليه الجحيم.

وهذا رواه أبو داود في كتاب السنة: باب لزوم السنة.

وهذا يثبت بأن السلف رحمهم الله تعالى يؤمنون بالقضاء والقدر.

والله تبارك وتعالى قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠]، فصدق قدره؛ لأنه لابد أن يكون هذا الإنسان في هذه الأرض.

ومن هنا نجد أن آدم عليه الصلاة والسلام لما سأله موسى وقال له: (كيف أخرجتنا من الجنة؟ فأجابه آدم عليه الصلاة والسلام بقوله: أتلومني في شيء قد كتبه الله علي قبل أن أخلق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى).

وفي هذا الحديث لم يحتج آدم بالقدر على المعصية، وإنما احتج بالقدر على المصيبة؛ لأنه من المعلوم أن آدم لما سأله موسى كان قد تاب وتاب الله عليه ومحي عنه الذنب، وهو ليس بحاجة إلى أن يحتج بالذنب، ولكن لما سأله موسى أجاب آدم بالقدر السابق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى).

ومن هنا قالوا: يجوز الاحتجاج بالقدر في حالتين: الحالة الأولى: في حالة المصائب التي تصيب الإنسان.

الحالة الثانية: فيما إذا أذنب الإنسان وتاب إلى الله واستغفره ورجع وعمل الحسنة بعد تلك السيئة، فيجوز أن يقول: إن تلك المعصية كانت بقضاء وقدر، أما أن يحتج بالقدر مسوغاً لها فهذا لا يقبل.

وروى أبو داود بسند صحيح إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: فإنه كتب إلى أحد أصحابه رسالة يقول فيها: كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير -بإذن الله- وقعت، ما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة، هي أبين أثراً ولا أثبت أمراً من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم، وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم، وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدر، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه ومنه تعلموه إلى آخر كلامه.

وهذا أثر من عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يبين أن الإيمان بالقدر هو سبيل السلف في أن الأمر كله لله سبحانه وتعالى، فإذا جاء المعتزلة أو القدرية أو غيرهم لينحرفوا في هذا الباب وليقولوا: إن هذا ظلم أو هذا كذا أو هذا كذا؛ فهذا كله لا يقبله السلف وإنما يرفضونه رفضاً تاماً.

ومن هنا فإننا نجد أن السلف رحمهم الله تعالى كانوا شديدين جداً على أولئك الذين ضلوا في مسألة القضاء والقدر، ولم تكن محل إشكال عندهم، روى أبو داود في كتاب السنة: باب لزوم السنة -وهو حديث حسن الإسناد- أن عبد الله بن عمر كتب إلى صديق له من أهل الشام كان يكاتبه: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر).

ومن هنا كانت للسلف مواقف قوية في هذا الباب، وقد تكلم غيلان القدري أحد القدرية مع ربيعة بن عبد الرحمن (ربيعة الرأي) الإمام المشهور، فقال له: يا أبا عثمان! أيرضى الله عز وجل أن يعصى؟ فقال له ربيعة: أفيعصى قصراً؟! فسكت.

وكلمة غيلان: أفيرضى ربنا أن يعصى؟ هي مبنية إشكال عندهم سيأتي بيانه بعد قليل في مسألة التفريق بين الإرادة والرضا، لكن انظر إلى

الجواب

( أفيعصى قصراً؟) أي: لا تحل أنت المشكلة بمشكلة أخرى، وهذا ما وقع فيه كل من الجبرية والمعتزلة، وهذا الأثر رواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة برقم (١٢٦٥).

ومن قصص عمر بن عبد العزيز مع هذا الرجل القدري وهو غيلان الدمشقي أنه لما بلغه قوله بالقدر استدعاه عمر بن عبد العزيز فقال له: يا غيلان ويحك ما هذا الذي بلغني عنك؟! قال: يكذب عليّ يا أمير المؤمنين، ويقال علي ما لا أقول.

قال: ما تقول في العلم؟ أي: علم الله الأزلي.

قال: نفذ العلم.

فقال له عمر بن عبد العزيز: أنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت، يا غيلان! إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك إن تقر به فتخصم، خير لك من أن تجحده فتكفر.

ثم قال له: اقرأ (يس).

فقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:٩] إلى آخر قصته مع غيلان.

وهذا القول من عمر بن عبد العزيز من أعظم ما ورد في باب القدر عن السلف، وفيه فقه مذهب السلف، وبيان الرد على مذهب المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقرون بالعلم، فإذا أقروا بالعلم فما فائدة أن يأتوا ويقولوا: الإنسان حر مختار إذا كان لا يقع شيء إلا وفق علم الله سبحانه وتعالى؟! وسيأتي بيان شيء من ذلك.

ورواية عمر بن عبد العزيز مع غيلان رواها عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه السنة برقم (٩٤٨)، وأيضاً اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة برقم (١٣٢٥).

وأورد اللالكائي هنا أيضاً برقم (١٣٣٩) في كتاب شرح اعتقاد أهل السنة حكاية عن رجل اتفق مع رجل أن يعبر الشاطئ وأن يعطيه كذا من المال، فصار الرجل يعوم ليعبر الشاطئ، فلما قرب منه قال الرجل: عبرت والله، ما بقي له إلا قليل.

فقال له ذلك الرجل: قل: إن شاء الله.

قال: شاء أو لم يشأ.

قال: فأخذته الأرض وابتلعته.

وأيضاً أورد اللالكائي قصة الجارية التي كانت سيدها قدرياً، وكان يقول إذا أتته بقدح من ماء: إنني يمكنني أن أشربه أو ألا أشربه، كأنه يقرر أنه سيشرب هذا القدح شاء الله أولم يشأ! فهذه الجارية أعطته الماء مرة وهو يريد أن يشربه، وكان قد قال لها: إن لم أشربه فأنت حرة لوجه الله؛ فضربت القدح فسقط على الأرض وسال الماء؛ فعتقت الجارية، وكانت تسمى بمولاة السنة.

والقدر كان عند السلف رحمهم الله تعالى أمر مسلم، حتى إن أحد أئمة المعتزلة -وهو عمرو بن عبيد - كان جالساً مع أصحابه في أحد المرات، فجاء أعرابي ووقف وقال: إن ناقتي سرقت؛ فادعوا الله أن يردها علي.

فقال عمرو بن عبيد المعتزلي القدري: اللهم إنك لم ترد أن تسرق فسرقت، فردها عليه.

انتبه لكلمة: (لم ترد أن تسرق)؛ فهو يعتقد أن هناك أشياء لا يريدها الله، وهو يقصد الإرادة الكونية، وليست الإرادة الدينية، فالأعرابي بفطرته قال له: لا حاجة لي في دعائك! قال: لماذا؟ قال: إذا كان الله أراد ألا تسرق فرغماً عنه سرقت، فأخاف أن يريد أن ترد فرغماً عنه لا ترد علينا، فلا حاجة في دعائك.

أعرابي على الفطرة خصم هذا الشيخ المعتزلي الذي أمضى في الفلسفة وعلم الكلام وقتاً طويلاً؛ لأن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى وبقدره.

<<  <  ج: ص:  >  >>