للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التوكل ينجي الإنسان مما يخافه من الفقر]

من ثمرات التوكل أن التوكل على الله سبحانه وتعالى ينجي الإنسان مما يخافه من الفقر.

وقد ورد في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصابتنا فاقة -فقر- فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسأله، فوجدته يخطب الناس وهو يقول: أيها الناس! والله مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنك) هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، (وإنه من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) هكذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله: (من يستغن)، الاستغناء: هو أن لا يرجو الإنسان أحداً إلا الله، فيستشرف ما عنده والاستعفاف: أن لا يسأل أحداً.

ولهذا سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن التوكل قال: قطع الاستشراف إلى الخلق -أي: لا يكون في قلبك أن أحداً يأتيك بشيء- فقيل له: الحجة في ذلك؟ فقال: قول الخليل لما قال له جبريل: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.

فاعتمد على الله فنجاه الله.

فمن يستغن بالله يغنه الله، لكن من يعلق قلبه بالناس وفلان وعلان والرزق الفلاني والراتب الفلاني يكله الله سبحانه وتعالى إليه، كما ورد في الأثر: (من تعلق شيءٍ وكل إليه).

قال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل، فتضيع أمر آخرتك، ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتب الله لك.

وكلنا نعلم الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن المبارك والحاكم وابن حبان وابن أبي الدنيا في التوكل على الله سبحانه وتعالى، وهو حديث صحيح، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، وهنا في هذا الحديث بعض العلماء قال: قوله: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً) لا يعني أنها تفعل السبب، وإنما هي بطبعها تتحرك في الهواء وفقط، وهذا من جنس حركة المرتعش بالنسبة لها، فمن توكل على الله حق توكله رزقه الله كما يرزق الطير.

ولكن المعنى الصحيح للحديث: هو أن قوله عليه الصلاة والسلام: (لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) أن الطير فعلت السبب، والله هو الذي هداها لتفعل السبب، فتغدو في الصباح (خماصاً) جائعة ضامرة البطون، وترجع في المساء (بطاناً) قد رزقها الله سبحانه وتعالى.

وإذا كان الأمر كذلك فإن كل الناس يذهب ويغدو، فما معنى (حق توكله)؟ كيف يشبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالطير؟ الذي يظهر -والله أعلم- أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه من توكل على الله حق توكله بالطير -مع أن الإنسان يفعل السبب- أن الطير يبيت لا يحمل هم رزقه، فلا يقول: أين التجارة الفلانية والربح الفلاني والخسارة الفلانية والمال الفلاني والفلوس الفلانية؟ بل يبيت مطمئناً مرتاحاً، هذا هو الطير، فمن توكل على الله سبحانه وتعالى جعل الله له الاطمئنان، ويسر له الأسباب دون أن يحزن، فيصير مثل الطير، يفعل السبب ويرزقه الله سبحانه وتعالى ويأتيه رزقه، وهذا هو معنى التوكل على الله سبحانه وتعالى ولذلك يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كان في عهد خلافته جاءه رجل من الأعراب ممن يطلب الرزق فجلس عند بابه، وصار عمر يعطيه لأنه خليفة المسلمين وأمير المؤمنين، فمكث عند بابه لينال رزقه، فجاء إليه رجل وقال له: يا هذا! أنت هاجرت إلى عمر أو إلى رب عمر؟ قال: وما ذاك؟ قال: اذهب فاقرأ القرآن، فإن الله يغنيك عن عمر فاستيقظ الرجل وذهب لقراءة القرآن وعبادة الله وطلب العلم فأغناه الله، ولكن عمر الذي كان يرعى رعيته سأل عن الرجل؛ لأنه انقطع عنه أياماً، فبحث عنه في المدينة حتى لقيه، فقال له: يا فلان! كنت عندنا فإلى أين ذهبت؟ فقال: يا أمير المؤمنين! جاءني رجل فقال لي هذا الكلام: اقرأ القرآن واعتمد على الله لا على عمر فقرأت القرآن فأغناني الله سبحانه وتعالى فقال له عمر: يا أخي! وماذا وجدت في القرآن -يعني: ما الذي لفت انتباهك في القرآن-؟ قال: قول الله تبارك وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:٢٢]، فالتوكل على الله سبحانه وتعالى يجعل العبد راضياً مطمئناً، فالإنسان الذي يبيت ليله مطمئناً وليس عنده مال، والإنسان الآخر الذي يبيت ليله قلقاً وعنده الملايين أيهما أكثر راحة وسعادة؟ تلك موازين نعرفها جميعاً، لكن نحن بحاجة إلى نتفاعل معها عملياً في حياتنا، فلا نغضب إذا نقصت أموالنا، ولا نحزن، وإنما نفرح لأننا على الإيمان والهدى والتقى، وهذا هو رأس مال المؤمن.

أيها الأخ المسلم! وردت قصة رواها ابن أبي الدنيا في التوكل على الله، وقعت في إحدى الفتن التي وقعت في الأمة الإسلامية، والآثار في هذا الباب -في باب التوكل والكرامات- التي يذكرها الصوفية كثيرة، لكننا أعرضنا عنها صفحاً لأننا لا ندري ما صحتها، وإنما يحسنونها في كتبهم، ولكن هذه الرواية وردت بسند صحيح إلى عون بن عبد الله قال: بينا رجل في بستان بمصر في فتنة ابن الزبير مكتئباً معه شيء ينكت به في الأرض، إذ رفع رأسه فسنح له صاحب مسحاة، فجاءه هذا الرجل صاحب المسحاة فقال له: مالي أراك مكتئباً حزيناً؟ قال: فكأنه ازدراه.

رأى شكله، وحاله فقال: لا شيء.

فقال له صاحب المسحاة: ألدنيا؟! فإن الدنيا عرض حاضر -يعني: غير باق- يأكل منها البر والفاجر، والآخرة أجل صادق يحكم بها ملك قادر يفصل بين الحق والباطل.

فلما سمع ذلك الرجل هذا الكلام كأنه أعجبه، فأخبره بما في نفسه، وقال له: إنني حزين مكتئب لما فيه المسلمون.

يعني: لأحوال المسلمين.

فقال له هذا الرجل: فإن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين، ومن ذا الذي سأل الله فلم يعطه، ودعاه فلم يجبه، وتوكل عليه فلم يكفه، أو وثق به فلم ينجه؟! قال عون بن عبد الله: فتعلقت بالدعاء، اللهم! سلمني وسلم مني.

فتجلت- يعني: الفتنة- ولم تصب منهم أحداً.

فهذا الرجل يقول: بشفقتك على المسلمين فأين أولئك الذين يسمعون الأحداث تمر بالمسلمين من حولهم ولكنهم لا يحركون ساكناً ولا تتحرك قلوبهم، لكن المؤمن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وهذا الرجل يقول: إن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين لأنك تحمل هم المحن، هم الأمة الإسلامية، يحزنك إذا أصاب المسلمين في مكان ما حوادث أو كوارث، يحزنك إذا قصر المسلمون في إيمانهم ودينهم، تحمل هم المسلمين؛ لأنك إذا حملت هم المسلمين فمعناه أنك في شغل، وهو الطاعة والعبادة، وهو التقوى والرضا بالله سبحانه وتعالى، ولقد كان قواد المسلمين رحمهم الله سبحانه وتعالى يتوكلون على الله في جميع أحوالهم، ولا أطيل بذكر الأمثلة، ولكنني سأذكر مثالاً واحداً لرجل من الرجال الذين قاوموا الصليبيين زمن الحروب الصليبية، كان له جهاد وأي جهاد! أفنى عمره وحياته في قتال الصليبيين من مكان إلى مكان، وهو نور الدين محمود زنكي، فإن هذا الرجل ذكر عنه أنه كان يمرغ وجهه في التراب قبل المعارك، ويدعو ربه ويقول: من محمود؟ يعني نفسه، يعني أنه لا قيمة له انتصر أو لم ينتصر، يا رب! من محمود؟ إنما هو دينك، إنما هم عبادك، اللهم! انصرنا.

لا أنانية، وإنما هو رجل عاش لله وبالله، واعتصم بالله، وصار هم المسلمين همه وشغل المسلمين شغله، فجاهد في الله، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياه والمسلمين جميعاً في مستقر رحمته.

روى أبو شامة في الروضتين وابن قاضي شهبة في كتابه الكواكب الدرية الذي ترجم فيه لـ نور الدين هذا، روى أن القدس لما كانت بأيدي الصليبيين، وكان نور الدين يجاهدهم وينتصر عليهم -لكن تحرير القدس إنما تم بعد نور الدين محمود عندما جاء صلاح الدين، فذهب بعض الناس إلى زيارة بيت المقدس وهو تحت الاحتلال الصليبي، فماذا وجد الصليبيين يقولون عن نور الدين؟ وجدهم يقولون عنه: إن له مع الله سراً، فإنه ما يظفر علينا بكثرة جنده وعسكره، وإنما يظفر علينا وينتصر بالدعاء وصلاة الليل.

وكان مشهوراً بصلاة الليل، نور الدين محمود كان معروفاً عنه صلاة الليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول هؤلاء الكفار: إنما يظفر علينا وينتصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي الليل ويرفع يديه إلى الله ويدعو، والله سبحانه يستجيب دعاءه ويعطيه سؤله وما يرد يده خائبة، ويظفر علينا بهذا.

فالتوكل على الله مطلوب من جميع الأمة رئيسها ومرؤوسها، من جميع الناس، فإذا توكلوا على الله فإن الله سبحانه وتعالى يوفقهم ويهديهم وينصرهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>