للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أبو سفيان بن الحارث]

دعني أضرب لك مثلين فيما يتعلق بظلمة البعد عن الله ونور الإيمان، أحدهما قديم، والآخر حديث صاحبه معاصر وموجود في مدينتنا، أما المثال القديم فهو في زمن المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما بدأ دعوته استجاب له القلة وحاربه الكثرة، وكان ممن حاربه بعض أقاربه، وعلى رأسهم الهالك الممقوت الموصوف بالقرآن أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:١ - ٥].

وكان أيضاً ممن حارب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قرابته ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وهو غير أبي سفيان بن حرب والد معاوية بن أبي سفيان، بل هو شخص آخر اسمه أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا الرجل أبو سفيان بن الحارث كان رجلاً له مكانة في قومه شريفاً نسيباً، وكان شاعراً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عاداه، وصار يقول الشعر في عداوة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وامتدت عداوته طول العهد المكي، حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد غزوة بدر وأحد والخندق، واستمر على ذلك حتى جاء صلح الحديبية، ثم نقضت قريش الصلح في قصة معروفة، فجاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى مكة فاتحاً، فكان مما أعلنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مقبل على مكة أن فلاناً وفلاناً لا عهد لهم، اقتلوا فلاناً ولو وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة؛ لأنه رجل حرب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا يقبل منه شرط ولا عهد، فقال في حق بعضهم: (إذا وجدتموه فاقتلوه ولو وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة)، فكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دمه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على مكة ضاقت بـ أبي سفيان هذا الدنيا من أولها إلى آخرها، فماذا يصنع؟ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقبل على مكة بجيش عرمرم، وقريش مستسلمة ترى أنها لا تستطيع لذلك مقاومة، فماذا يصنع؟ أظلمت عليه الدنيا، وصار ما كان يفعله في السابق من تبجح ومفخرة في قريش وقيادة لحرب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن معه من المسلمين صارت هذه أحلاماً مزعجة؛ لأنه ينتظر العقوبة، فقيل له: يا أبا سفيان لو أنك أتيت إلى محمد بن عبد الله؛ فإنه رجل يقبل من أتاه تائباً! ففكر في الأمر هل يهرب؟ هل يذهب يميناً أو شمالاً؟ فلم يجد له مجالاً إلا أن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن كيف يأتيه والرسول قد أهدر دمه؟ كل من يراه من المسلمين سيقتله.

فلما قرب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة ذهب وأخذ معه ولداً له صغيراً عمره قرابة سبع سنوات، لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرق له إذا رأى الطفل الصغير، فأخذ معه ولده الصغير، وذهب ليلقى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان مخفياً نفسه حتى لا يرى، فأتى إلى العباس، فأخذه العباس حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مع أصحابه، فقيل له: يا رسول الله! هذا ابن عمك أبو سفيان فاقبله.

فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من شدة الغضب.

ويا له من موقف! ووالله إن موقف العاصي حين يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى لهو أشد ذلاً من هذا الموقف.

ذلك الذي سرح ومرح في معاصي الله يضحك ويلهو لا بد له من الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:٤٣]، كل واحد منهم قد رفع بصره إلى السماء في موقف الحساب لا يدري ماذا يؤمر به، حتى إن كثيراً من أهل المحشر -بل كل أهل المحشر- يصابون بالفزع الشديد حين تزفر جهنم، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفاً.

أقول: انظر إلى ذل أبي سفيان بن الحارث وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم! فلما أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أظلمت عليه الدنيا من أولها إلى آخرها، وقال: والله لئن لم يقبلني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأخرجن أنا وولدي هذا إلى البرية حتى نهلك ونموت عطشاً.

ضاقت عليه الدنيا من أولها إلى آخرها، لكن المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي وصفه الله بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨]، ففيه رحمة من رحمة ربه سبحانه وتعالى.

رحمه لما قال هذا الكلام وقبله، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وصار من كبار المسلمين الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم في سائر المعارك كلها، ومنها معركة حنين، فرضي الله عنه وأرضاه.

ولأنه شاعر فقد سطر تجربته في أبيات من الشعر كان ينشدها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتأمل قوله رضي الله عنه وأرضاه وهو يحكي تاريخه الجاهل وما أكرمه الله به من الإيمان ونور الإسلام، يقول أبو سفيان بن الحارث رضي الله عنه: لعمرك إني يوم أحمل رايةً لتغلب خيلُ اللات خيلَ محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي تصور إنساناً مدلجاً مسافراً في الليل لا أحد حوله ولا عن يمينه ولا عن شماله ثم أظلم عليه الليل! يقول: لكالمدلج الحيران أظلم ليلة فهذا أواني حين أهدى فأهتدي أتاني هادٍ غير نفسي فدلني إلى الله من طردت كل مطرد من هو الذي طرده كل مطرد؟ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي طرده كل مطرد هو الذي هداه الله بسببه، تقول بعض الروايات: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا سمع البيت الأخير الذي يقول فيه: أتاني هادٍ غير نفسي فدلني إلى الله من طردت كل مطرد يضرب على كتف أبي سفيان بن الحارث ويقول له: (أنت الذي طردتني كل مطرد) يعني: قد أبدلك الله تبارك وتعالى بذلك هداية وإسلاماً.

هذه صورة لإنسان ظن أنه في يوم من الأيام في القمة، وإذا به يجد الظلمة وليس له نور إلا نور الإسلام والاستقامة على منهاج الله تبارك وتعالى، ومن ثم شارك بعد ذلك في الجهاد حتى مات في سبيل الله رضي الله عنه وأرضاه.

فهذا مثال.

<<  <  ج: ص:  >  >>