للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[منهج السلف الصالح تجاه القدر]

لقد كانت أحوال الصالحين -وهذه هي القضية الأولى- مع الإيمان بالقضاء والقدر أحوالاً تبنى على منهج سليم، مؤمنين بقضاء الله وقدره، يفعلون الأسباب ويتوكلون على رب الأرباب، ثم إنهم بعد ذلك يؤمنون بالله تبارك وتعالى ويعبرون هذا الكون.

وتأمل تأملاً مجملاً في حياة الهادي البشير صلى الله عليه وسلم وحياة صحابته من بعده فستجدها حياة مستقرة مؤمنة، حياة فيها الإيمان وفيها العمل، فيها الشجاعة وفيها الإقدام، فيها التقوى وفيها الإحسان، حياة مستقرة ليس فيها أمراض عصية ولا تعب ولا أحزان إلا ما يصيب الإنسان مما يبتلي الله سبحانه وتعالى به عباده، ومن ثم آمنوا بالله أولا، ودعوا إلى دين الله ثانيا، وفتحوا الفتوحات في مشارق الأرض ومغاربها ينشرون هذا الإيمان وهذا الدين بين الناس، وتلك حياة عاشوها رضي الله عنهم جميعاً تمثل تطبيقاً عملياً صحيحاً للإسلام عموما ولهذه القضية التي نتحدث عنها خصوصا.

وتوالت على ذلك أحوال السلف رحمهم الله تعالى، فكانوا مؤمنين ومسلمين رادين على أهل البدع جميعاً ومنها بدع أهل القدر وغيرهم، ولقد كانت حياتهم رحمهم الله تعالى حياة رضا وتسليم وإيمان وعمل جاد.

فهذا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان يقول عن نفسه: ما أصبح لي هوىً في شيء سوى ما قضى الله عز وجل.

وهذا هو الإيمان والتسليم.

وكان رحمه الله تعالى يدعو ويقول: اللهم! رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته ولا تأخير شيء عجلته.

ورحم الله عمر بن عبد العزيز، فتلك -والله- صفات المؤمنين الذين لا يفرحون بما آتاهم الله ولا يحزنون على ما فاتهم من أمور، وإنما يسلمون للقدر المكتوب.

يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: يصبح المؤمن حزيناً ويمسي حزيناً ويتقلب في النوم -أي: يتقلب في النوم مما فيه من أحزان وأكدار- ويكفيه ما يكفي العنيزة.

أي: يكفيه من البلاغ والطعام ما يكفي العنيزة.

فلماذا الأحزان والأكدار؟ هذا معنى كلام الحسن رحمه الله تعالى.

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيرا؛ فإنما له ما قدر له، ولا يأت أحدكم فيمدحه فيقطع ظهره.

أي: لا يأتي إليه ليمدحه ويقطع ظهره حتى يعطيه أو يقضي له حاجته، بل إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيرا، فإن كان قد قدر فسيكون.

هذه أحوال المؤمنين.

ومن ثم قال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: يا ابن آدم! لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، ولا تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.

كلمات فيها عبرة، إذا فاتك شيء لا تحزن، وكيف تحزن على شيء قد فاتك وهو لن يأتيك أبدا؟ ثم بعد ذلك لا تفرح بشيء موجود؛ لأن الموت أمامك، فإنه لن يتركه بين يديك، فكم من صاحب سلطان وجاه كان له في العالمين ذكر ثم إذا به يرحل؛ لأن الله كتب الموت على الجميع.

فلا تفرح بما عندك ولا تحزن على ما فاتك، ولقد روي أن رجلاً كان يمتدح رجلاً مثله بشعره لينال العطاء والمكانة، ثم ابتلاه الله عز وجل بمرض أقعده، فهجره الممدوح وقلاه، فقال عن نفسه يصور حاله معه: أبعين مفتقر إليك نظرتني فرميتني من فوق أعلى شاهق لست الملوم أنا الملوم لأنني أنزلت حاجاتي بغير الخالق.

ويقول جنيد بن أحمد الطبري رحمه الله تعالى وهو يصور أحوال العباد: العبد ذو ضجر والرب ذو قدرٍ والدهر ذو دولٍ والرزق مقسوم والخير أجمع فيما اختار خالقنا وفي اختيار سواه اللؤم والشوم وصدق رحمه الله تعالى.

فإن الإنسان يؤمن بالقدر المقدور والأرزاق المقسومة، فإذا آمن بذلك استراح، أما إذا فكر فيه واعترض على قدره شقي ولن يأتيه إلا ما قدر له، والعاقل البصير هو الذي يعرف ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>