للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اليقين بعدل الله تعالى]

ثانياً: المعالم الكبرى في مسألة الإيمان بالقضاء والقدر.

إن هذه المسألة لابد من ضبطها بتلك المعالم حتى يستقيم فهم الإنسان لهذه القضية وإيمانه بهذا الركن على الوجه الصحيح؛ لأن كثيراً ممن انحرف في هذا الباب إنما انحرف لاختلال معلم من هذه المعالم التي سأذكرها، وهذه المعالم هي ما يلي: أولاً: اليقين التام بعدل الله تبارك وتعالى وأن الله تعالى لا يظلم أحدا، وهذه قضية كبرى يجب على العبد أن يؤمن بها إيماناً عميقا من غير شك ولا ريب، فالله سبحانه وتعالى حكم عدل لا يظلم الناس شيئاً، ويبنى هذا على عدد من الأسس.

أولاها: كمال صفات الله سبحانه وتعالى، فهو العزيز الحكيم، وهو الغفور الرحيم، وهو العليم القدير، وهو سبحانه وتعالى الحكم العدل، ومن ثم فالإيمان بهذه الأسماء والصفات يجعل قلب المؤمن يقر بأن الله كامل، ويقر بأن الله لا يمكن أن يظلم أحدا.

والأساس الثاني في قضية عدل الله أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلم أحداً من الناس، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧]، ويقول الله تبارك وتعالى عن نفسه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، قضية يقينية لابد أن تكون مستقرة في قلب الإنسان، أن الله لا يظلمك، بل إنه تعالى حرم على نفسه الظلم فقال تعالى -كما في الحديث القدسي الصحيح-: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، والذي يحتج بالقدر ويعترض على ربه سبحانه وتعالى هو بلسان حاله أو بلسان مقاله متهم لربه سبحانه وتعالى بهذا؛ لأنه يعترض على ربه، فهو يزعم أن التقدير ظلم من الله تبارك وتعالى.

والثالث من قضايا هذا العدل أنه تعالى غني عن العالمين، فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى عباده، ليس بحاجة إليهم حتى يظلمهم، ولو تأملنا أحوال العباد لوجدنا بعضهم يظلم بعضاً لأمور: إما لحب العلو في الأرض، أو لأجل أن يأخذ أموالهم، أو ليتسلط عليهم، أو لغير ذلك من الأسباب، أما ربنا سبحانه وتعالى فهو غني عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين ولا تضره معصية العاصين، ومن ثم قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا).

إذاً فربنا سبحانه وتعالى غير محتاج إلى أحد، ومن ثم فهو ليس بحاجة إلى أن يظلم أحداً من الخلق، وبهذه القضية وبهذا المعلم وهذا الميزان يستريح الإنسان؛ لأن قلبه في هذه الحالة يستقر على يقين تام أن الله تبارك وتعالى في عليائه بأسمائه وصفاته غني عن العالمين، فهو غير محتاج إليهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلمك أبدا، فإذا وقعت في معصية فتب إلى الله، وإذا أصابتك مصيبة أو رأيت الناس قد اختلفوا في أرزاقهم أو أحوالهم فلا تعترض على الله أبدا، وإنما أيقن يقيناً تاماً أن الله حكم عدل لا يظلم أحدا.

وهذه القضية -أيها المسلم- وهذا المعلم من المعالم المهمة التي يجب على كل واحد منا أن يذكر بها نفسه وأن يربي عليها من حوله؛ لأن القلب إذا استقر على ذلك استراح، ومن ثم كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يقررون هذه القضية مع أنها مقررة في الكتاب والسنة، لكن كانوا يقررونها ويعلمونها من حولهم.

روى أبو داود وابن ماجه وابن أبي عاصم والإمام أحمد رحمهم الله تعالى بإسناد حسن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله جل ثناؤه أن يذهبه من قلبي.

فقال: -أي: قال له أبي بن كعب -: (لو أن الله جل ثناؤه عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار).

فتأمل هذا التعليم، لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، قضية إيمانية؛ لأن الله غير محتاج إلى الخلق: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:٦].

لهذا فإن الإنسان إذا استقر عنده هذا لا يكون في قلبه شيء، بل يؤمن بالقدر ولا يصبح في قلبه أي اعتراض على ما قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه، وليس هذا منهج أبي بن كعب فقط، بل إن ابن الديلمي ذهب إلى مجموعة من الصحابة فقالوا له مثل ذلك، ذهب إلى عبد الله بن مسعود فقال له مثل ما قال أبي، وذهب إلى زيد بن ثابت فقال له مثل ذلك، وذهب إلى حذيفة بن اليمان فقال له مثل ذلك، فدل هذا على أن هذه الحقيقة مستقرة في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روى مسلم عن أبي الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى قال: قال لي عمران بن حصين -وعمران بن حصين هو الصحابي الجليل المعروف-: أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون أشيء قضي عليهم من قدر قد سبق أو مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت عليهم به الحجة؟ يقول أبي الأسود: قلت لا.

بل شيء قضي عليهم.

قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً وقلت: ليس شيءٌ إلا وهو خلق الله وملكه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣].

فانظر إلى تسليم هذا التابعي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] بعد أن فزع من هذا الكلام، يقول: فقال لي عمران بن حصين: يرحمك الله! ني -والله- ما سألتك إلا لأحزر عقلك.

أي: لأختبر عقلك.

رجلاً من مزينة أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت ما يعمل ويكدح الناس فيه اليوم أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقدمون مما أتاهم به نبيهم وثبتت عليهم به الحجة؟ قال: لا.

بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم.

قال: ففيم العمل إذاً؟ قال: من كان خلقه الله لواحدة من المنزلتين فسييسره، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:٧ - ٨]).

إذاً هل هذا ظلم؟ لا.

وهل يترك الإنسان العمل؟ لا.

وإنما يعمل، وكل ميسر لما خلق له، فإذا عمل فكيف يعمل هذا الإنسان والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، كيف يعمل الإنسان وهو يجهل قدر الله؟

و

الجواب

يعمل الإنسان على مقتضى شرع الله سبحانه وتعالى، فيعمل بالطاعات ويبتعد عن المعاصي، والله سبحانه وتعال ييسر الجميع لما خلقوا له.

هذا هو المعلم الأول من معالم الإيمان بالقضاء والقدر، وأهميته -أيها الأخ- تنبع من أن الإيمان به والتصديق يعين الإنسان على الرضا بالقضاء وعدم الاعتراض.

<<  <  ج: ص:  >  >>