للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التلازم بين العقيدة والشريعة وموقف الطوائف الأخرى منه]

ومن القضايا في منهاج السلف الصالح التي يجب أن نقف عندها ويقف عندها الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى قضية التلازم بين العقيدة والشريعة، ومن المؤسف حقاً أن هذه القضية لا تزال مجال أخذ ورد من بعض من لم يفقه منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، والتلازم بين العقيدة والشريعة قضية كبرى من اختلت عنده اختل عنده النظر الصحيح إلى منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ومقتضى هذا التلازم أن عقيدة الإسلام بتوحيدها وأركان إيمانها تنبثق منها شريعة كاملة لازمة له، وأن الإنسان الذي يؤمن بتلك العقيدة لا بد أن يلتزم بتلك الشريعة، وأنه لا انفصام بينهما، لكن لو تأملت في هذه القضية لوجدت أن المناهج قديماً وحديثاً ضلت في هذا الباب.

دعني أضرب لك مثالاً بالنسبة للزمان القديم حول هذه القضية: إن أئمة الإسلام منذ القرن الأول الهجري ردوا على طائفتين ضالتين من الطوائف التي تذكر في كتب الفرق الإسلامية، الطائفة الأولى: الخوارج، ومعهم المعتزلة، والطائفة الثانية: المرجئة، فما علاقة ردود أئمة الإسلام على هاتين الطائفتين بهذه القضية التي معنا، وهي قضية التلازم بين العقيدة والشريعة؟! الطائفة الأولى وهم الخوارج والمعتزلة جعلوا هذا التلازم تلازماً تاماً يؤدي إلى تكفير كل من خالف وعصى ربه تبارك وتعالى، ومن ثم فمن وقع في كبيرة أخرجوه من دائرة الإسلام، وهو ما يسمى بقضية (كفر مرتكب الكبيرة)، هذا الفهم للتلازم بين العقيدة والشريعة لا يتوافق مع طبيعة البشر؛ فإن كل بني آدم خطاء، فإذا ما قال أحد بهذا القول أن كل مرتكب لكبيرة فإنه خارج عن دائرة الإسلام فمعنى ذلك أن هذا الإسلام الحق سينحصر في فئة قليلة جداً هي فئة هذه الطائفة التي تزعم نفسها جماعة المسلمين، وعلى هذا فإن هؤلاء أخطئوا في فهم منهاج الإسلام وتلازم عقيدته وشريعته من الناحية النظرية في تعريف الإيمان، وجعلهم للأعمال جميعها شرطاً فيه، ومن الناحية العملية حينما انحازوا بأنفسهم وظنوا أنهم هم جماعة المسلمين، ومن لم يدخل في جماعتهم فهو كافر خارج عن دائرة الإسلام، ومن ثم أدى هذا المعتقد إلى منهجية غريبة في التعامل مع النصوص تحولت إلى منهجية أغرب في التعامل مع الناس، ومنهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى يختلف عن منهاج الخوارج.

إذاً عندنا نوعية من الطوائف كانت موجودة قديماً ولا تزال إلى الآن تفهم التلازم بين العقيدة والشريعة على أنه تلازم كلي، وأي خلل فيه سواء أكان خللاً في باب التكذيب أم خللاً في باب العمل مهما كان فإنه يؤدي إلى الخروج عن دائرة الإسلام، بينما في منهاج الإسلام ومنهاج السلف الصالح لا يوجد هذا، ولهذا كانت عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون بكل كبيرة من الكبائر، كما قال الطحاوي رحمه الله: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] أي: لا نكفرهم بكل الذنوب.

فميزوا بين ذنب وذنب، ومن ثم تجد الواقعية في المنهاج الإسلامي وفي فهمه، فالمجتمع المسلم وهو يطبق هذا الإسلام لا يتحول إلى مجتمع ملائكة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، وإنما مجتمع مضبوطة أموره، وقضاياه مميزة، فإذا وجد من يعصي وتاب تاب الله عليه، وإذا وجد من يعصي وأقيم عليه الحد كان كفارة له، فجاءت أحكام الإسلام وحدوده لتبين كمال هذه الشريعة.

وقد يقول قائل: إذا كانت الشريعة كاملة فلماذا حد السرقة وحد الزنا وحد القتل؟ نقول: هذا فهم خاطئ، من كمال هذه الشريعة وجود هذه الحدود؛ لأن طبيعة الإنسان أنه يخطئ ويصيب، وطبيعة التكليف الرباني للإنسان في هذه الحياة أن الله يبلوه بالحسنات والسيئات، ويبلوه بالخير والشر فتنة إلى أن يرجع، فلما كان الأمر كذلك تبين أن من كمال هذه الشريعة أن شرع الله سبحانه وتعالى هذه الحدود لتضبط مسار المجتمع.

إذاً الطائفة الأولى أخطأت في فهم الإيمان وفهم التلازم بين العقيدة والشريعة.

والطائفة الثانية: المرجئة، وهؤلاء أمرهم عجيب أيضاً، فصل بين اعتقاد القلب وبين عمل القلب والجوارح، فصار الإيمان عندهم مجرد التصديق القلبي الخالي عن العمل، بل أحياناً يقولون: إنه مجرد المعرفة، وإن هذا كافٍ في وجود الإيمان وتحقيق الإسلام ومقتضى هذا المذهب أن الشريعة والعمل لا علاقة لهما بالعقيدة، فكل من صدق بالله بقلبه فهذا هو المسلم وإن رفض شريعة الإسلام، وإن رفض أحكام الله سبحانه وتعالى، ولهذا تجد أن هذا المذهب الإرجائي الذي وجد في زمن قديم انتشر في الأزمنة المتأخرة انتشاراً عظيماً، فتجد الكثير من الناس يقول لك: ما دام أنه انتسب إلى هذا الدين فهو مسلم، ولو كذبه، ولو انتسب إلى مبادئ علمانية إلحادية، ولو رفض شريعة الله، ولو أنه شرع من دون الله سبحانه وتعالى.

وعلى هذا الفهم نجد عند هؤلاء لا علاقة للشريعة بالإيمان، سواء علاقة نظرية أو علاقة تؤثر في مدلول الإيمان وفي قضيته واعتقاده، وهذا أمر عجيب وغريب وخطير، ولهذا لما انتشر المذهب الإرجائي في الأمة الإسلامية في عصورها المتأخرة وجدنا من يكتفي بالهوية لينتسب إلى الإسلام فقط، وإذا فتشت عن حاله وعن خلقه عن سلوكه وعن قضاياه الأخرى كلها لا تجد فرقاً بينه وبين غيره من الكفار.

وأقول: عن طريق هذا المنهاج تسلل الغرب إلينا في العصور المتأخرة ليفرض علينا حياة غربية، ومناهج غربية، وقوانين جاهلية، ولا مانع مع ذلك بالبقاء على الانتساب إلى الإسلام، ومن ثم ترتب على هذا الفهم وعلى هذا الواقع العملي الذي عاشته الأمة الإسلامية أن تلك الفئة التي عرفت بمصطلح (العلمانية) وجدت في الغرب، ولكن الغريب جداً أن تنتقل إلى العالم الإسلامي؛ لأن العلمانية مقتضاها فصل العقيدة عن الحياة، ويسمونها أحياناً (فصل الدين عن الدولة)، ويسمونها أحياناً (فصل الدين عن الحياة)، وهي في الحقيقة فصل بين انتسابك إلى الإسلام وبين حياتك، وأن تكون على أي منهج، والأخطر من ذلك أن يكون لهذه العلمانية دعاة ومدارس تتبنى مبادئ قومية، أو مناهج أدبية، أو غيرها من المناهج لتركب عليها وتقود الأمة إلى هذا المنهج العلماني.

إذن لما نتحدث في منهاج السلف الصالح عن التلازم بين الشريعة والعقيدة لا نتحدث عن قضية جزئية، ولا نعرض لمسألة جانبية، وإنما نعرض لقضية كبرى تميز بها السلف الصالح رحمهم الله تعالى من خلال منهج مؤصل في هذا الباب.

وبهذا ينقض قول الخوارج وغلوهم وضلالهم، وبه ينقض قول المرجئة وتساهلهم وبدعتهم، وبه أيضاً تنقض العلمانية المعاصرة التي تريد أن تفصل بين عقيدة الإسلام وبين شريعة الإسلام، ومن هنا فإن الدعوة إلى منهاج السلف الصالح لا بد أن ينتبه إليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>