للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كيف عاش الصحابة مع القرآن]

سنعرض لنماذج عن حياة السلف بالقرآن، ونبدأ بالصحابة الذين عايشوا وشاهدوا التنزيل مع من نزل عليه القرآن محمد صلى الله عليه وسلم، كيف كانوا يتلقونه؟ وكيف كانوا يؤمنون به ويصدقونه ويعملون به؟ وأرجو أن لا يعجب أحد فيقول: إن الصحابة عاشوا مع القرآن وهو ينزل على حسب الأحداث التي عاشوها وراعوها، فكيف يمكن أخذ العبرة من أحوالهم ومواقفهم؟ وجواباً على ذلك نقول: كيف كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الفترة المكية التي نزل فيها كثير من القرآن؟! بل كيف كان حالهم في شطر كبير من العهد المدني حيث الحروب والغزوات وتحزب الأحزاب على المسلمين؟ لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً في مكة سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لهذا القرآن، وصدٌ لغيرهم عن الإصغاء إليه، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم المقاطعة له ولعشيرته، ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شعب من شعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله صلى الله عليه وسلم أو نفيه أو أسره، وفيما بين ذلك هجرة طويلة شاقة إلى الحبشة من جانب بعض أصحابه، ورحلة دامية إلى الطائف، ووصف له بأبشع الصفات تمثلها وسائل الإعلام القرشية في مواطن تجمعات الناس، في الحج، وفي سوق ذي المجاز، وفي سوق عكاظ، وفي غيرها من مجامع القبائل، واصفةً رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بأنه مجنون، ومرة بأنه ساحر، ومرة بأنه كاهن، ومرة بأنه كذاب، ومرة بأنه صابئ، ومرة بأنه مفرق للأمة، وأصحابه صلى الله عليه وسلم معه يعانون ما يقال.

عاشوا في هذه الأجواء وهم بعد لا يعلمون ما في غيب الله المجهول، بل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدري ما الذي يفعل به، وقد قص الله عليه أن من الرسل من قتل، فلا يدري رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ستكون النتيجة عملياً لدعمه، ولا يدري أصحابه من بعد كيف تنزلت عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه السور والآيات المكية تحمل حقائق التوحيد والألوهية وقصص الأنبياء ووعد الله بنصر عباده المؤمنين.

فكيف كانوا يستقبلون ويتلون هذه الآيات والسور وهم في تلك الأحوال مستضعفين مطاردين من جانب الكفار وأعوانهم؟ إن دارس السيرة النبوية ينبغي أن يقف مع هذا

السؤال

كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة ثلاثة عشر عاماً في مكة يستقبلون القرآن؟ كيف كانوا يتلقون الوحي من الله سبحانه وتعالى وهم بعد لم يجدوا مكاناً آمناً، ولم ينتصروا على المشركين، ولم تفتح لهم مكة، ولم يدخل الناس في دين الله أفواجاً؟ كيف كانوا يتلقون القرآن في أيام العهد المكي والمسلمون مطاردون، بل يعذبون في بطحاء مكة، ورسول الله وأصحابه ينظرون، بل وفيهم من يموت تحت وطأة التعذيب ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرون هذه الحقائق؟ كيف كانوا يتلقون الآيات القرآنية؟ أيها الإخوة في الله! إن الموضوع يطول جداً، ولكنني أقول لكم: في تلك الأجواء والمضايقات والمطاردات في مكة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستقبلون سورة الأنعام المكية؟! كيف كانوا يستقبلون قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:٣٥ - ٣٦]؟ كيف كانوا يستقبلون: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:٣٦]؟ كيف كانوا يستقبلون: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:٣٥]؟ أين الآيسون من رحمة الله ونصر الله؟ كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل هذه الآيات؟ وكيف كانوا يستقبلون قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:٥٥]؟ كيف كانوا يستقبلون هذه الآيات في سورة الأنعام المكية؟ كيف تلقوا قول الله تعالى في هذه السورة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:١٢٣] وغيرها من الآيات في هذه السورة العظيمة؟! أيها الإخوة في الله! كيف تلقى المسلمون مثل هذه الآيات في سورة الأعراف المكية: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:١٩٦ - ١٩٧]؟! كيف تلقى المسلمون والرسول معهم قول الله تعالى في سورة يونس المكية: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس:٤٦]؟ وقوله تعالى في هذه السورة: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:٥٣] أين المتوددون؟ {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:٥٣]، وقوله في هذه السورة أيضاً: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٩٤ - ٩٧].

انتبهوا واستحضروا أن هذه الآيات نزلت في مكة، والمسلمون فيها على ما تعلمون -أيها الإخوة في الله- في مطاردة وتشريد وتعذيب، فكيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتعاملون مع هذه الآيات وهم لا يعلمون غيب الله المكنون؟! أيها الأخ المسلم! لما جرى على المسلمين في غزوة أحد ما جرى، ورأى المسلمون فيها من العبر والدروس العظيمة قال الله تعالى بعد هذه الغزوة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:١٧٩]، فواجهوا الأحداث مواجهة مباشرة حتى تكون التربية ويكون الإيمان ويكون العيش مع القرآن.

وتأمل قوله تعالى في هذه السورة المكية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:٩٩ - ١٠٣].

كيف تلقوا هذا الوعد الصادق وهم مطاردون في مكة؟ كيف سمع الرسول وتلقى الصحابة هذه الآيات في سورة هود: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:١١٢]، إنه كتاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وهم مستضعفون فقراء في المدينة، يقول الله له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:١١٢ - ١١٥].

ثم يقول في آخر السورة: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:١٢٠ - ١٢٣].

كيف تلقى الصحابة قصة يوسف وما جرى فيها، وقول الله تعالى في أواخرها: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠]، وهي سورة مكية؟! كيف تلقوا قول الله تعالى في سورة إبراهيم المكية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ ي

<<  <  ج: ص:  >  >>