للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الوعد القرآني للصحابة بالتمكين والأمن بعد الخوف]

وهناك نموذج آخر: فقد كان الله تعالى يقص في القرآن على المسلمين من أنباء الرسل وهم في مكة يثبت أفئدتهم، ويعدهم الأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم في مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧١ - ١٧٣]، وبمثل قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:٥١].

فلما هاجر المسلمون إلى المدينة فراراً بدينهم من الفتن ظنوا أنهم قد وجدوا مأمنهم في مهاجرهم، ولكن ما لبثوا أن هاجمتهم الحروب المسلحة من كل جانب، فانطلقوا من خوف إلى خوف، وأصبحت أمنيتهم أن يجيء يوم يضعون فيه أسلحتهم، وفي هذه الحال كان يعدهم الله في القرآن بما سيحصل لهم من النصر والأمن والاطمئنان، بمثل قول الله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٥٥].

روى الحاكم في مستدركه -وصححه- عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟! فنزلت هذه الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:٥٥]).

وروي عن البراء رضي الله عنه قال: (نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد).

فكيف عاش الصحابة مع هذا الوعد الرباني بأن الله سيمكن لهم في الأرض، ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا، ولكنه وعد مشروط بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، فكيف عاش الصحابة مع هذا الوعد الرباني المشروط بعبادة الله وحده لا شريك له؟! لقد تلقوه بالتصديق، فحققوا الشروط، فعبدوا الله وحده لا شريك له، ونبذوا الأصنام، وحققوا الولاء والبراء، وعملوا بأحكام الله تبارك وتعالى، وصاروا أناساً يتلقون القرآن ليعملوا به، يتلقاه الفرد وتتلقاه الأمة للعمل، فالفرد حين يسمع آيات من كتاب الله تعالى في أمر أو نهي، ينقلب إلى أهله وأولاده يتلو عليهم كتاب الله تعالى فينفذون في الحال، لا انتظار ولا شكوك ولا قساوة قلوب، لأنها قلوب حية تلين مع القرآن، وتعمل بالقرآن، وتحقق ما أمرها الله سبحانه وتعالى به، فلما حققوا ذلك وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وفعلوا الواجبات وتركوا المحرمات؛ حقق الله سبحانه وتعالى لهم ذلك الوعد، فبدلوا في وقت قصير من بعد خوفهم أمنا، واستخلفوا في مشارق الأرض ومغاربها، وقد تم ذلك في وقت قصير من السنين.

هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يعيشون مع القرآن، كانوا لحبهم لهذا القرآن ولثقتهم بما فيه لا يملون من تلاوته، يتعلمونه ويعملون به، كانوا وهم في ساحات الجهاد يحيون لياليهم بالقرآن الكريم، وكانوا يتلذذون بقراءة القرآن العظيم، وكان الواحد منهم إذا اشتدت عليه الهموم أو جاءه الخوف من كل جانب لجأ إلى الله سبحانه وتعالى وهو يتلو القرآن العظيم، يتلوه تلاوة المؤمن الواثق، تلاوة المؤمن العامل، تلاوة المؤمن الذي صدق ربه فصدقه الله سبحانه وتعالى.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هل تريدون أن نكون كما كانوا؟ إن الأمر واضح وضوح الشمس، فإن كنا نريد أمناً، وإن كنا نريد عيشاً رغيداً، وإن كنا نريد حياة طيبة، وإن كنا نريد أن يعصمنا الله من أعدائنا مشرقاً ومغربا، فعلينا بهذا الدين عقيدة وشريعة ومنهاجا، وعلينا بهذا القرآن نجعله حياتنا، وذلك وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.

<<  <  ج: ص:  >  >>