للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشرط الثالث: العبودية الكاملة لله عز وجل]

من شروط هذا الوعد تحقيق العبودية، فما معنى العبودية؟ العبودية معناها في قوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي) أي: يوحدونني.

وحقيقة العبودية أن يشعر الإنسان بالرق لله عز وجل، وشعوره بالرق معناه التحرر من عبادة المخلوق؛ لأن الإنسان لابد من أن يخضع لدين، ولابد من أن تسيطر عليه عقيدة، ولابد له من رق وعبودية، فإما أن يكون ذلك لله، وإما أن يكون لشيء آخر، كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه حينما قدم على رستم فقال له رستم: ما الذي جاء بكم؟ قال: (إن الله عز وجل ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل وحده).

إذاً ليست هناك حرية أبداً، إما أن تكون العبودية لله وإما أن تكون لغير الله، ولذلك فقد أدرك المؤمنون أن هذه العبودية يجب أن تكون لله، وأن لا يكون منها شيء للمخلوق، فالإنسان حر طليق إلا أنه عبد لله عز وجل؛ لأنه يعلم أن الحياة والموت بيد الله وأن الرزق بيد الله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦]، وأن الأرض ملك لله يورثها من يشاء من عباده، وأن ما في هذه الأرض من الطيبات إنما هي للمؤمنين، يشاركهم فيها الكافرون في الحياة الدنيا ويختص بها المؤمنون في الحياة الآخرة، يقول عز وجل: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢].

إذاً هذه العبودية لله، وهذا التحرر لا يكون إلا من عبادة المخلوق، وإذا هرب الإنسان من عبادة الله عز وجل وحده فإنه لابد من أن يقع في عبادة المخلوق أياً كان هذا المخلوق.

فليعلم أن عبادة البشر فيها الذلة والمهانة، وكذلك عبادة المال أذل وأشد مهانة، يقول عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) كذلك إذا هرب الإنسان من عبادة الله صار عبداً للشيطان، ويعصي الله عز وجل في قوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:٦٠ - ٦١]، وكذلك إذا هرب من عبادة الله عز وجل فسيكون عبداً للشهوة أو عبداً لأي كائن من كان غير الله عز وجل، وبمقدار ما يهرب من العبودية لله يقع في الرق والعبودية للمخلوقين، وإذا هرب من العبودية لغير الله يقع في العبودية لله عز وجل وحده.

لقد كان سلفنا الصالح يعتزون بالعبودية لله، فهذا الفضيل بن عياض رحمة الله عليه عندما كان يعيش حياة منحرفة مدة من الزمن فأنقذه الله عز وجل ليكون عبداً له بدلاً من أن يكون عبداً للشهوات تحول الفضيل بن عياض ذلك اللص الذي كان يرهب الناس في الليل إلى العابد الذي يقول: ومما زادني شرفاً وتيهاً فكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا يعتبر عبوديته لله شرفاً فيقول: كدت أطأ على الثريا وهي في كبد السماء ببطني قدمي؛ حينما قلت لي: يا عبدي.

لأني لو لم أكن عبداً لك لكنت عبداً للشهوة.

ولقد عاش الفضيل بن عياض الحياة الآسنة الفاسدة في عبادة الشهوات حتى أنقذه الله عز وجل، وذلك عندما كان يتسلق داراً ليسرقها فسمع قارئاً يقرأ في الدار: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦]، فقال: والله لقد آن، والله لقد آن.

فصار مع كل جزء من هذه الآية ينزل درجة من السلم ويقول: والله لقد آن، والله لقد آن.

ونحن نقول للمفسدين في الأرض ونقول للعصاة الذين لم يهتدوا بعد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦].

ولعلك تعرف من هو بشر الحافي في التاريخ بعد أن هداه الله، كان بشر رجلاً فاسقاً من أبناء الأشراف، وورث مالاً كثيراً، وكان شاباً مترفاً يعيش ليله مع نهاره في معصية الله عز وجل، تدار كئوس الخمور في داره حتى الهجيع الأخير من الليل، كما يحدث لكثير من الناس، نسأل الله العافية والسلامة، فالراقصات والمغنيات واللهو واللعب في داره إلى الصباح، وكان في حياة أشبه ما تكون بالغيبوبة لم يفهم معنى العبودية، فأراد الله له الهداية، فمر ذات يوم بداره إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه الرجل الصالح، فتمزق قلب إبراهيم بن أدهم حينما سمع اللهو واللعب وكئوس الخمر تدار في بيت رجل يقول: إنه من المسلمين.

فقرع إبراهيم بن أدهم باب بشر، ففتحت له إحدى الراقصات فقال: هذا بيت من؟ قالت: بيت بشر.

قال: بالله أخبريني أبشر حر أم عبد؟ فتأمل كيف تصل الموعظة إلى قلوب الناس الأشقياء إذا أراد الله عز وجل لهم السعادة والهداية، قالت: لا، بل هو حر.

قال: قولي له: إن كان حراً فليفعل ما يشاء.

وانصرف الرجل.

فلما رجعت الراقصة سألها بشر: من كان عند الباب؟ قالت: رجل صفته كذا.

قال: ماذا قال؟ قالت: سأل عنك أحر أنت أم عبد؟ قال: وماذا قلت له؟ قالت: قلت له: إنك حر.

قال: وماذا قال؟ قالت: قال: إن كان حراً فليفعل ما يشاء.

بدأ بشر يفكر في معنى العبودية والحرية، فالناس لا يتصورون الرق إلا للعبد المملوك الذي يباع ويشترى، ثم قال: أين ذهب الرجل؟ قالت: من هنا.

فمشى حافياً لأول مرة في حياته يركض وراء إبراهيم بن أدهم فلحقه، فقال: قف يا رجل، ماذا تقول؟ قال: أبداً يا بشر، وإنما سألت عنك أحر أنت أم عبد؟ فقالوا: إنك حر.

فقلت: إن كنت حراً فافعل ما تشاء.

قال: ويحك يا رجل! ماذا تقول؟ قال: لا أقول أكثر من ذلك، يا بشر! إن كنت حراً فافعل ما تشاء، وإن كنت عبداً فليست هذه صفة العبيد لله.

فصار يضرب برجله الأرض ويقول: والله إني لعبد، والله إني لعبد.

تصور أن هذه العبودية أنقذته من ذلك الرق، فرجع إلى بيته يكسر زجاجات الخمر ويسرح المغنيات ليكون بشراً الحافي الذي لا ترد كلمة بشر إلا ويتصور الناس منتهى الورع والتقى والاستقامة على دين الله.

يروى أن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه كان جالساً في مجلس العلم فجاءته امرأة وقالت: أيها الإمام! نحن قوم نغزل ثم يمر السلطان بأضواء لامعة في الطريق فنغزل على هذا الضوء فيزيد غزلنا، فهل يجوز لنا هذا الضوء الذي يضيء في الفضاء؟ قال: نعم يجوز.

فلما انصرفت سأل الإمام أحمد: من هذه المرأة؟ فقيل له: هي أخت بشر الحافي.

فقال: ردوها عليّ.

فلما ردوهما قال: لا يجوز لك ذلك الضوء.

فسألوه: لماذا؟ قال: إن هناك من يسأل عن فضول المباحات، وإن هذه المرأة من بيت ورع ودين وتقى فهي أخت بشر الحافي.

بشر ذلك الذي كان في يوم من الأيام لاهياً لاعباً عابثاً فأصبح الرجل الذي يضرب به المثل في الورع والتقوى.

وهذا عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه ورحمه الذي يثني عليه التاريخ ثناءً عاطراً؛ لأنه فهم معنى العبودية، وحين وقع في أسر الرومان في موقعة في زمن عمر كان الرجل الصائم العابد الراكع الساجد في جنح الليل المظلم وهو في معتقله في بلاد الروم، فذكرت بعض صفاته من عبادته وتقواه وصلاحه وعقله ورزانته لملك الروم، فقال قيصر الروم: مثل هذا لو دخل في ديني لكان مكسباً عظيماً.

فدعا عبد الله بن حذافة، فجيء به وأوقف بين يديه وقال له قيصر: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي.

يريد أن يصرفه من عبودية الله إلى عبودية الملك والمركز الذي يسيل له لعاب كثير من الناس، ولربما يرتدون عن الإسلام لما هو أصغر من ذلك بكثير، فقال: والله لو كانت لي الدنيا بأسرها ما تركت شيئاً من ديني.

إذاً العبودية للمركز والملك فشلت، فلم يتنازل عن شيء من دينه ليكون مشاطراً لقيصر الروم في ملكه؛ لأنه ملأ قلبه بالعبودية لله عز وجل، فما استطاع هذا القلب أن يستوعب مكاناً آخر غير الله عز وجل، فقال قيصر الروم: ردوه إلى معتقله ودلوني على طريق أكسب به هذا الفتى.

فقالوا: إنه بعيد عن أهله منذ أشهر وإنه شاب قوي، ولو فتنته بالشهوة لأصبح عبداً لها.

فقال: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي.

فجيء بأجمل فتاة في بلاد الروم وأغريت كل الإغراء إن هي فتنت عبد الله بن حذافة، فدخلت الفتاة وتجردت من كل ملابسها، وصارت تتابعه بجسدها المترف، وكلما دنت منه ابتعد عنها وأغمض عينيه، وأقبل على القرآن يتلوه ويستعيذ بالله من شرها، وصارت هذه الفتاة تتابعه جهة جهة حتى يئست منه، وعرفت أنه قد امتلأ قلبه بالعبودية لله عز وجل، فقالت: أخرجوني.

فقابلها شياطين الإنس عند الباب وقالوا لها: ماذا حدث؟ قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر؟.

عبودية لله لم تترك مجالاً في هذا القلب ليتسع لشيء آخر.

إنها الشهوة التي تفتن كثيراً من الناس ولا تعطي فرصة للتفكير ولا لاستعمال العقل، تخلص منها هذا الصحابي الجليل بسبب عبوديته ورقه لله عز وجل.

تحير قيصر الروم في أمر هذا الشاب فقال: لابد من أن تدلوني على سبيل أفتن به هذا الرجل.

فقيل له: كل الناس يخافون من الموت.

لكن عبد الله بن حذافة لا يخاف من الموت ومن هم على شاكلته لا يخافون من الموت؛ لأنهم يعرفون أن الموت لا يأتي إلا بأجل معلوم، كما قال الله تعالى: {فَإِذ