للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التمكين للدين في الأرض]

قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:٥٥] تمكين الدين، بحيث يشعر المسلم بالعزة التي شعر بها سلفنا الصالح، حينما كان عقبة بن نافع رضي الله عنه يقف على القيروان -وهي غابة موحشة في تونس الحالية- ليبني مدينة القيروان في تلك الغابة التي كلفه الخليفة أن يبني فيها قاعدة للمسلمين في شمال أفريقيا، فيقول له أهل البلد: يرحمك الله أيها القائد، هذه غابة موحشة كل الفاتحين يرجعون دونها.

فيقف عقبة رضي الله عنه عند جانب من الغابة ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد جئنا هنا لننشر الإسلام.

يقول شاهد عيان: لقد كنا نرى الوحوش تحمل أولادها من الغابة لتخليها لـ عقبة بن نافع.

إنه يتمكن الدين في الأرض حينما يستخلف المؤمنون ويكون الأمر بأيدي أصحابه الشرعيين، فيبني مدينة القيروان، ويواصل البطل سيره إلى جهة الغرب ليقف على شاطئ المحيط الأطلسي، ويغرز عقبة قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: (والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضته إليه على فرسي هذا) فهل يستطيع فرس عقبة بن نافع أن يخوض المحيط الأطلسي إلى بلاد أمريكا وهي لم تكتشف بعد؟! لا يستطيع، ولكنها عزة المسلم التي تشبهها عزة قتيبة بن مسلم رضي الله عنه الذي فتح بلاد ما وراء النهر، فيجلس ذات يوم مع القادة وكبار الجند في بلاد ما وراء النهر ويقول: يا قوم! أي بلد أمامي الآن؟! يقولون: هي بلاد الصين.

يقول: والله الذي لا إله غيره لن أرجع إلى بلادي حتى أطأ بأقدامي أرض الصين وأضع الوسم على الصينيين وأفرض الجزية.

ويجلس قتيبة، وتنفذ هذه الكلمات التي صدرت من قلب صادق عبر التجسس الذي يخبر ملك الصين بأن قتيبة حلف أن يطأ بأقدامه أرض الصين، فيخاف ملك الصين من قتيبة وجنده وبينه وبينهم آلاف الأميال، وليس لدى قتيبة من وسائل التدخل إلا الخيل والبغال والإبل، فيقول ملك الصين: هذه صحاف من ذهب مملوءة من تربة بلادي يطأها قتيبة وهو في مكانه ويبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم قتيبة بن مسلم وسم العرب كما يقول، ولا يصل إلى بلادي، وهذه الجزية سوف تصله في كل عام.

فهذه العزة هي عزة المؤمن، فحينما استخلفهم الله عز وجل في الأرض ومكنهم في الأرض تمكن الدين، وكانوا هم أنصار الدين، ولذلك فإن الاستخلاف إذا صاحبه انحرف عن الدين فإن الله عز وجل يقول بعد ذلك: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٥٥] وقد تعمر دولة، وقد تتسع رقعتها وتتباعد حدودها لكن نهايتها مربوطة بعدم الوفاء بهذا الشرط الذي اشترطه الله عز وجل، وجعله شرطاً لهذا الوعد الحق.

إذاً ما هي ضريبة الاستخلاف في الأرض؟! تجد هذه الضريبة في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:٤١].

أما الذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، وهم ممكنون في الأرض فليس لهم نصيب من التمكين، وإن وجد التمكين مدة من الزمن فسوف تكون هذه بداية النهاية، ولذلك نشاهد في تاريخ الأمم عبر التاريخ الطويل أن أي أمة يمكن الله عز وجل لها في الأرض ويستخلفها وتصبح لها هيبة أنها تمتحن من عند الله عز وجل، فإن وفت بهذه الشروط وأدت ضريبة التمكين في الأرض فأقامت الصلاة، وآتت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وشجعت الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وشجعت الذين يدعون إلى الله عز وجل على بصيرة، ووضعت يدها على أيديهم، وأصبحت تفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم وتسير في فلكهم فهي أمة سوف تطول مدتها بمقدار ما تحافظ على هذا العهد وتفي به تجاه الله عز وجل، ولكنها حينما تكون الثانية -نسأل الله العافية والسلامة- فستجدها حضارة تنهار يوماً بعد يوم، أو لربما تؤخذ فجأة وبغتة كما شاهدنا في تاريخنا القريب وفي عصرنا الحديث أمماً وجدت ثم انتهت، فأصبحت خبراً بعد عين، فماذا فعل الله عز وجل بالأندلس؟ وماذا فعل الله عز وجل بفلسطين؟ وماذا كان للبنان؟ هذه كلها دروس تصيبهم قارعة أو تحل قريباً من دارهم، والحمد لله أنها ما أصابتنا وإن حلت قريباً من دارنا، فنسأل الله عز وجل أن يجعل لنا فيها عظة وعبرة.

إذاً الاستخلاف في الأرض يطلب معه تمكين الدين، وتمكين الدين يكون من قبل الله عز وجل، لكن لا بد من أن تكون هناك جهود تبذل، ولا بد من أن تكون هناك تضحيات، ولا بد من أن تشجع الدعوة إلى الله عز وجل، ولا بد من أن يقمع الفساد في الأرض، لا بد من أن تطهر البيئة لتكون بيئة طاهرة طيبة لتربية أبناء المسلمين، لا بد من أن يشجع جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأمة، وحينئذ يتحقق قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:٤١] يعني: الأمر اتركوه لله، فالله تعالى هو الذي يحفظ الأمة، وهو الذي يقضي عليها حينما ينتهي أجلها بإرادة الله سبحانه وتعالى، وهنا يقول الله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٥] فكيف استخلف الذين من قبلنا؟! يقول الله تعالى عن قصة استخلاف الذين من قبلنا: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤] فالإمامة لم يصل إليها من قبلنا إلا بالصبر واليقين، ولا تصل إليها هذه الأمة إلا بالصبر واليقين، ولا يستقر الاستخلاف في الأرض ولا يتمكن الدين في هذه الأرض إلا إذا صبر الناس وأيقنوا بوعد الله عز وجل وساروا على المنهج الصحيح.