للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عقبات في طريق الجنة]

أيها الإخوة! إن في طريق الجنة عقبات، وليست الجنة قد فرش طريقها بالورود والرياحين، ليس طريقاً ممهداً مسفلتاً؛ لكنه طريق وعر، وهذه الطريق الوعرة ليس الهدف من ورائها أن يصرف المؤمنون عن الجنة، ولكن من هدفها ألا يدخل الجنة إلا من يستحق الجنة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

وعلى هذا نفهم معنى قول الله تعالى في صفة العقبات الشديدة التي تعترض سبيل المؤمن في طريقه إلى الله وإلى الجنة من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:٢١٤]، ثم يقول الله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].

إذاً: نصر الله لا يأتي حتى يقول الناس: متى نصر الله؟! أي: إن نصر الله يتأخر حتى يظن طائفة من الناس بالله عز وجل سوءاً، ونصر الله يتأخر حتى ترتج الأرض بالمؤمنين وتتزلزل، (أم أحسبتم أن تدخلوا الجنة)؟! استفهام إنكاري هنا، (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ)، والمراد بالبأساء: الحروب المهلكة، والضراء: الفقر والمسغبة والأذى، والفتن في طريق الجنة، (وزلزلوا) أصبحت الأرض كأنها تتحرك من تحت أقدامهم؛ من شدة الخوف والذعر الذي أصاب المؤمنين، فهذه الزلزلة وصلت إلى درجة أن يقول الرسول -وهو الرسول الذي أرسل من عند الله-: متى نصر الله؟! تصوروا يا إخوان! شدة الفتنة في طريق الجنة! الرسول يقول: متى نصر الله؟! وكلمة (متى) هنا ليس معناها الاستفهام، وإن كانت (متى) في الأصل هي للاستفهام، ولكن معناها هنا: الاستبطاء، أي: أبطأ نصر الله.

والمؤمنون الذين يعيشون مع المرسلين عليهم الصلاة والسلام من شدة الخوف الذي أصابهم، والشدة التي أصابتهم في طريق الجنة يقولون: متى نصر الله؟ إذا كان هذا بالنسبة للمرسلين وأتباعهم، فما هو موقف عامة الناس في طريقهم إلى الجنة وهم يفتنون في دينهم ويبتلون في طريق الجنة؟! إذاً: الطريق وعرة يا إخوان! قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:١٦] أي: ما يلجئون إلى غير المؤمنين، وليس معناه أن تلجأ للمؤمنين من دون الله، أي: يعتمدون على الله عز وجل، ويستعينون بالله ثم بالمؤمنين لا بالكافرين، إلى غير ذلك من العقبات التي تعترض طريق المسلم إلى ربه عز وجل وهي الدار الآخرة.

يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ما نلقاه من المشركين في مكة، فأتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توسد رداءه في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيوضع المنشار على مفرق رأسه إلى قدميه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دين الله، ولكنكم قوم تستعجلون، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه).

ففي طريق الجنة عقبات في طريق الجنة قتل مرسلون في طريق الجنة أخرج المرسلون من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، أخرجوا وقال لهم الكفرة من أتباعهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم:١٣ - ١٤].

إذاً: هذه هي العاقبة للمتقين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.

في طريق الجنة قطعت أيدي أقوام وأرجلهم من خلاف، وصلبوا في جذوع النخل، وكانوا قبل لحظات يحلفون بعزة فرعون ويقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:٤٤]، ما ولدوا في الإسلام وفي الملة كما يولد الناس المؤمنون اليوم، ولكنهم ولدوا على الكفر وعاشوا في الكفر والسحر، لكن عندما دخل الإيمان في قلوبهم في لحظة واحدة من الزمن ويهددون وينفذ فيهم هذا التهديد: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١] رأوا الجنة بأعينهم، ماذا قال أولئك؟ {(قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:٧٢] ما قالوا: بعزة فرعون كما كانوا يقولون قبل لحظات، قالوا: {وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:٧٢]، استهانة بالحياة الدنيا، لكن الحياة الآخرة لا أحد يستطيع أن يفعل بها شيئاً، فهي بيد الله عز وجل، وحتى الحياة الدنيا بيد الله؛ لأنه لا يقضي ما هو قاض إلا بالأجل الذي حدده الله عز وجل، ولذلك استطاع الإيمان أن يتغلب على ما في قلوبهم من الكفر والسحر في لحظة واحدة، فكيف بأبناء الملة والفطرة الذين ولدوا على الفطرة، وفي بيوت الفطرة والملة، واختلطت هذه الفطرة وهذا الخير بدمائهم وعظامهم ولحومهم؟! إذاً هم أولى أن يكون ذلك موقفهم.

في طريق الجنة خدت الأخاديد وأشعلت فيها النيران، وقيل: كل من آمن بالله لا بد أن يقتحم هذه النار أو يراجع حسابه في الإيمان بالله عز وجل، فيقتحمون هذه النار في الأخاديد، قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:٤ - ٥]، وهم جالسون على حافة النار يضحكون على المؤمنين، ولحومهم تحترق بهذه النار وعظامهم، لكنه حلم الله عز وجل، والامتحان والفتنة التي وضعها الله عز وجل في طريق الجنة، قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:٨]، والله تعالى بيده القدرة.

في طريق الجنة يقتحم إبراهيم عليه الصلاة والسلام النار التي يقول المفسرون عنها: إنها نار كانت تحرق الطير في جو السماء، ويستسلم لأمر الله عز وجل، ويقول الله عز وجل بعد ذلك: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩].

وفي طريق الجنة يصلب خبيب بن عدي رضي الله عنه في مكة، ويقول له القوم الكافرون: هل تريد أن يكون محمد في مكانك؟ فيقول: والله ما أود أن تصيب محمداً شوكة وأنا على هذه الحال.

في طريق الجنة قتل كثير من المؤمنين وصعدوا أعواد المشانق، وقالوا لأعدائهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:٧٢] إذاً: طريق طريق، وعرة ونستطيع أن نقول: إن هناك عقبات نستطيع أن نلخصها في أمور عشرة: