للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صحبة الأشرار]

من الأمور التي تعوق الإنسان دون الجنة: صحبة الأشرار، فقد يتخذ المسلم بطانة من دون المؤمنين، يتخذ بطانة كافرة تكون سبباً في شقائه وحرمانه وإبعاده عن الله عز وجل، وصحبة الأشرار ربما يكون سببها الإعراض عن دين الله، وعن شرع الله، وعن كتاب الله، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف:٣٦] أي: عن القرآن {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف:٣٦]، باسم صديق أو صاحب أو جليس أو مستشار أو سكرتير أو ما أشبه ذلك، هذا الشيطان يتسلط على ذلك الإنسان، فيحوله إلى شيطان آخر، وهذا الشيطان إذا تسلط على هذا الإنسان لا يتركه حتى يوقعه في قعر النار، ولذلك الله تعالى أمرنا بمجالسة الصالحين فقال: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:١]، {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} [الممتحنة:١٣]، {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:٥١]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:١٤]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

ويتسلط قرين السوء على هذا الإنسان الذي كتب الله عليه الشقاوة بسبب إعراض الثاني عن كتاب الله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:٣٦]، ثم لا يدعه هذا الشيطان -سواء كان من شياطين الإنس وهم أخطر على الإنسان، أو من شياطين الجن وهم يأتون في المرتبة الثانية- حتى يرميه في قعر جهنم: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:٣٨]، والله تعالى يقول: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩].

هذا القرين -نعوذ بالله- الذي ربما يسيء كثير من الناس -وبصفة خاصة بعض ولاة الأمر- في اختيار الجليس أو البطانة أو السكرتير، أو الذي يتولى الأمر أياً كان هذا الأمر، أو المربي؛ فيصرفه عن دين الله عز وجل، ويرميه في قعر جهنم، هذا إنما هو بسبب إعراض المتولي عن شرع الله عز وجل، وعن دين الله، ومن عقوبة الله تعالى أن يقيض له هذا الشيطان فلا يتركه حتى يرميه مع نفسه في نار جهنم، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هناك من يعيش من الناس في صحبة الأشرار، ثم يقيض الله عز وجل رحمة من رحماته لهذا الإنسان فينقذه من هذا الفاسد ومن هذا الجليس ومن هذا السكرتير؛ لأن الله تعالى أراد له خيراً، فإذا جاء يوم القيامة ودخل ذلك التقي الجنة الذي أنقذه الله عز وجل من صحبة هذا الشرير فيسأل الملائكة: أين فلان من الناس، والله لقد كاد في يوم من الأيام أن يضلني وأن يدخلني النار؟! فيقال له: هل تريد أن تنظر إليه؟ إنه في النار.

فيقول: نعم.

فتفتح له فرجة إلى النار فيرى صاحبه يتقلب في نار جهنم، فيطل عليه من شرفات الجنة بعد أن أنقذه الله من شره فيقول: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:٥٦ - ٥٧]، ثم يفرح بهذا النعيم فيقول: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٥٨ - ٦١].

هذه هي الحياة السعيدة التي يجب أن نبحث عنها، وأن ننقذ من وقع في شيء من هذه الورطات على أيدي هؤلاء الشريرين، أو جلساء السوء، ننقذهم من النار بقدر ما نستطيع، ولذلك فإن صحبة الأشرار تعتبر عقبة العقبات الكئود التي تعترض سبيل هذا الإنسان إلى الجنة.

ذات يوم من الأيام صنع أبي بن خلف -لعنه الله- طعاماً دعا فيه كبار أهل مكة، إذاً لا بد أن يدعو محمداً صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! مائدة سيحضرها صناديد قريش وأنت في مقدمتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي! والله لا أحضر طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.

فقام الرجل بدافع الكرم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائدته مع كبار القوم، فاستغرب القوم: كيف حضر محمد طعامك يا أبي؟! قال: شهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله.

تصوروا يا إخوان موقف الجلساء الفاسدين! قالوا: والله يا أبي! لا نكلمك حتى تذهب وتبصق في وجه محمد، وتعلن ردتك عن الإسلام؛ فذهب الشقي البعيد فبصق في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الله بصاقه إلى وجهه فأصبح علامة في وجهه حتى مات، وأعلن ردته عن الإسلام، وندم الرسول صلى الله عليه وسلم أن خسر رجلاً من كبار أهل مكة، ونزلت الآيات في سورة الفرقان تعزي نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وتنهاه أن يغضب مثل هذا الغضب لردة واحد من خلق الله، يقول الله عز وجل عن هذا الموقف: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:٢٧ - ٢٩] بعد إذ هداه الله أضله هؤلاء القوم، يقول الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:٢٩]، ويعزي الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:٣١]، ثم يبين الله عز وجل أن الهداية بيده وليست بيد الخلق: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:٣١].

إذاً: أيها الإخوة! جلساء السوء هم الذين يفسدون على الناس دينهم، وقصة أبي طالب لا تخفى عليكم، حينما كاد أن يدخل الجنة لولا جلساء السوء الذين حالوا بينه وبين الجنة، فقد حضر رسول الله صلى الله عليه عمه أبا طالب في ساعة الاحتضار، وكان أبو طالب ذا يد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنكر، فهو الذي رباه، وهو الذي دافع عنه، بالرغم من أنه يكفر بدينه، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد له هذه اليد في ساعة الاحتضار، ودخل عليه وقال: (يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله.

فالتفت الشقي إلى جلسائه، وكأنه يريد أن يأخذ رأيهم.

قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! قال: هو على ملة عبد المطلب -نعوذ بالله- فخرجت روحه وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦]، وأنزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:١١٣ - ١١٤])، هكذا أيها الإخوة يضر الجلساء بالجليس.