للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحديد مكان تخرج الرجال ووجه علاقة الآية بالتي قبلها]

يقول عز وجل في الآية الثانية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:٣٦]، يقول علماء التفسير: هذا جواب استفهام بياني، كأن سائلا يسأل ويقول: أين يوجد هذا الإيمان العظيم الذي هو كسراج يضيء بهذه الأوصاف المذكورة؟ فالله تعالى أجاب على هذا السؤال فقال: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) ومن هنا نعرف أين يتربى الرجال، وأين يولد الإيمان، وأين يترعرع الإيمان، وأين ينمو، كل هذا (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) وهذه البيوت هي المساجد.

قوله: (أذن الله أن ترفع) أي: تبنى وتشيد, وليس المعنى أن تزخرف وتوضع فيها الكتابات التي تلهي الناس، أو الفرش المزخرفة أو الألوان المزخرفة التي عمد إليها الناس في أيامنا الحاضرة، حتى لقد عددت في مسجد واحد قريب أكثر من ثلاثمائة قنديل يُضيء، وليس فيه إلا عشرة رجال يصلون، وهذا خلاف المألوف.

فهذه البيوت هي المساجد، وقد أذنَ الله تعالى أن ترفع حقيقة بناءً وتنظيفاً وتشييداً وتطهيراً واحتراماً وتقديساً، فلا يكون فيها لغو ولا لعب ولا كلام من كلام الدنيا، ولا بيع ولا شراء ولا إنشاد ضالة، ولا أي شيء من هذه الأشياء التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وإنما ترفع بذكر الله عز وجل وتطهر لتصبح صالحة للصلاة، ولذلك من علامات الساعة أن يتباهى الناس بالمساجد، فيقال: مسجدنا أجمل من مسجدكم.

بينما لا يقال: مسجدنا أكثر جماعة من مسجدكم.

وكذلك يقال مسجدنا أكثر زخرفة من مسجدكم، ومسجدنا أفضل فرشاً وأحسن ألواناً من مسجدكم.

وهكذا.

أما الإسلام فإنه ينظر إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى الحقيقة لا إلى الصورة، ولذلك الله تعالى قال: (أَنْ تُرْفَعَ) والمراد بها الرفعة الحسية المعقولة، والرفعة المعنوية الحقيقية.

قوله: (في بيوت) يقول المفسرون: هذه جملة متعلقة بقوله (يوقد) أي: يوقد هذا الإيمان وينشأ هذا الإيمان ويترعرع هذا الإيمان في هذه المساجد التي أذان الله أن ترفع.

قوله: (وَيُذْكَرُ فِيهَا اسْمُهْ) هذه هي الرفعة المعنوية.

ثم بين بعد ذلك التربية الحقيقية والمكان المناسب لهذه التربية فقال: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) والمراد بالتسبيح هنا الصلاة؛ لأن التسبيح كثيراً ما يذكر في القرآن والمراد به الصلوات الخمس، وإن كان يطلق أيضاً على ذكر الله عز وجل عامة.

قوله: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) الغدو: هو أول النهار.

والآصال: آخر النهار.

فالغدو صلاة الفجر؛ لأن الغدو يبدأ من نصف الليل إلى نصف النهار، والأصيل يبدأ من نصف النهار إلى نصف الليل، ولو نظرت إلى نصف الليل الأخير ونصف النهار الأول فإنه ليس فيهما إلا صلاة واحدة وهي صلاة الفجر، وكأن صلاة الفجر أصبحت تساوي الصلوات الأربع الأخرى، بل جعلت صلاة الفجر في كفة؛ لأنها تقع في وقت الغدو، وجعلت الصلوات الأربع -الظهر والعصر والمغرب والعشاء- كلها في كفة أخرى؛ لأنها تقع في وقت الأصيل كلها، ثم قدمت صلاة الفجر على الصلوات الأربع، مما يدل على أهمية صلاة الفجر.

ولا نرى في المساجد من المسلمين في صلاة الفجر إلا قليلاً! أليست صلاة الفجر هي التي يقول الله عز وجل عنها: {وَقُرْآنَ الْفَجْر} [الإسراء:٧٨] أي: وأمدح قرآن الفجر.

{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:٧٨]، أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.

ويقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى هذه الآية: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيصعد الذين كانوا فيكم فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون)، أي: في صلاة العصر وصلاة والفجر.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما فيهما -أي: العشاء والفجر- لأتوهما ولو حبواً)، وأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله).