للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خوفهم من يوم القيامة]

الصفة الثانية: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ).

إن الناظر إلى واقع الناس اليوم -مقارنة بما في هذه الآية- يجد الفرق البعيد الواضح، قوم تربوا في المساجد وقلوبهم معلقة بالمساجد، ولا يعرفون أي طريق إلا طريق الجنة، ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم هم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وفي المقابل هناك قومٌ يفسقون ويفسدون ويركبون كل المناكر، ولا يتركون معصية من معاصي الله عز وجل إلا ويركبونها، ثم تجدهم يضحكون بملء أفواههم، الصنف الأول قوم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهؤلاء في غفلة لا ينتبه أحدهم إلا حينما يأتي ملك الموت ليجلس عند رأسه ويقول: (أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله) أما الصنف الأول فإنه كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم يخشون الله عز وجل ويبيتون لربهم سجداً وقياماً ويخافون من النار ويقولون: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان:٦٥] ولذلك من خاف أدلج، يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم.

أما الذين يلهون ويلعبون ويضحكون ويسرحون ويمرحون دون قيود ودون ضوابط لا ينتبه أحدهم إلا في ساعة الموت، فالويل لهؤلاء إن لم ينتبهوا قبل ذلك.

وهنا يقول الله عز وجل عن هؤلاء المتقين: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) هذه ناحية.

الناحية الأخرى التي يجب أن نفهمها من هذه الآية: أن غلاة الصوفية يقول قائلهم: أنا أعبد الله لا خوفاً من عذابه ولا طمعاً في جنته.

وكيف تعبد الله؟ قال: أعبد الله محبة له.

وهذه كلمة يقولها غلاة الصوفية، كما كانت تقول رابعة العدوية: والله ما عبدت الله خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته وإنما عبدته محبة له.

فهذه كلمة ساقطة؛ فالمؤمنون الرجال الذين تربوا في المساجد يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، بل أعظم من هؤلاء المرسلون عليهم الصلاة والسلام، لما ذكرهم الله عز وجل في سورة الأنبياء قال في آخر قصصهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:٩٠] (رغباً ورهباً) أي: رغبة مما عند الله من المثوبة، وخوفاً فيما عند الله عز وجل من العذاب.

هذه هي صفة المؤمن، ونحن نعبد الله محبة له، لكن -أيضاً- نعبده خوفاً من ناره وطمعاً في جنته، ولذلك الله تعالى يقول عن هؤلاء الأتقياء الصالحين: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار).

قوله: (يخافون يوماً) ما هو هذا اليوم؟ هو يوم القيامة الذي يغفل عنه كثير من الناس، فلا يتصورون ساعة القدوم على الله، ولا يتصورون ساعة الموت، ولا يتصورون ساعة القبر، ولا يتصورون يوم يقوم الناس لرب العالمين، ولا يتصورون يوم تتطاير الصحف فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، ولا يتصورون الوزن الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:٨]، ولا يتصورون الصراط الذي يقول الله عز وجل عنه ويقسم على ذلك: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:٧١ - ٧٢]، هنا الله تعالى ذكر صفات المؤمنين الذين تربوا في المساجد.

قوله: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) ما معنى: (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ)؟ أي: من شدة الخوف يضطرب القلب حتى يتحرك بشدة، فينتقل من مكانه إلى الحنجرة.

وهذا هو معنى قوله تعالى: {إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:١٨]، وذلك من شدة الخوف، فانظر -يا أخي- حينما تخاف أو حينما يزعجك أمر كيف يضطرب قلبك بسرعة حتى ينسد النفس؟! إذاً يتقلب القلب في ذلك المكان وفي ذلك الزمان حتى يصل إلى الحنجرة، والأبصار -أيضاً- تتقلب فتقفز من أماكنها إلى أعلى الرأس، وهذا شيء نشاهده حينما يصاب الإنسان بذعر، يرتفع بصره إلى السماء، وكأن البصر قد قفز من مكانه إلى أعلى الرأس، هذه هي صفات المؤمنين الذين تربوا في المساجد، رجال يسبحون الله دائماً وأبداً ويخافون من الله عز وجل.