للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الإنسان الذي أمر بالاستقامة]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، البشير النذير، والسراج المنير صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الإخوة! قبل أن أحدثكم عن حقيقة الاستقامة، وعن مظاهرها التي يجب أن يتحلى بها المسلم، نعود قليلاً لنعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولنرى من هو هذا الإنسان الذي يقال له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:١١٢]؛ لأن حكمة الله عز وجل اقتضت أن يكون هذا الإنسان على هذا الكوكب، وهذه الحكمة لا يعلمها إلا الله، فحينما خلق الله عز وجل الإنسان، واعتبره خليفة لأمم سكنت الأرض كما يقول طائفة من المفسرين عن قول الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠].

كان هذا الإنسان أولاً غير مطالب بالعبادة، وإنما أسكنه الله عز وجل الجنة قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:٣٥]، لكن حكمة الله عز وجل أن يكون الابتلاء لهذا الإنسان، فيحذر الله عز وجل النبي الكريم آدم عليه الصلاة والسلام عن شجرة واحدة في الجنة، ويبيح له كل ما فيها من نعيم، وما ذلك إلا من باب الابتلاء، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٣٥].

ثم إن هذا العداء الذي وقع بين آدم وبين إبليس لحكمة يعلمها الله عز وجل، فأغواه ليأكل من هذه الشجرة فاستطاع أن يؤثر على آدم وحواء: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:٢١ - ٢٢].

ومن هنا أهبط آدم وأهبطت حواء؛ لتكون ذريتهما هي التي تعمر هذه الأرض، وليكون الابتلاء، ولكن حكمة الله عز وجل أن تكون الفطرة هي الأساس المتين الذي ينشأ عليه بنو آدم، فالله عز وجل اقتضت حكمته أن يخلق فطرة التوحيد والإيمان في قلب كل واحد من بني آدم قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠].

ثم أيضاً: نجد أن الله عز وجل أخبر أنه أخذ هذا العهد والميثاق على بني آدم جميعاً حينما استخرجهم من ظهره كالذر {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:١٧٢] فكانت الفطرة موجودة، كما أخبر الله عز وجل في الحديث القدسي حيث قال: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)، وبقيت هذه الفطرة إلى أن تسلط عليها شياطين الإنس والجن؛ فكان الصراع بين المؤمنين ابتداء من آدم عليه الصلاة والسلام وفي ذريته إلى يوم القيامة، وبين الشياطين مستحكماً منذ أن أهبط آدم من الجنة، قال تعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:١٢٣]، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا الصراع سوف يستمر.

ولذلك فإن هناك عوامل مهمة خلقها الله عز وجل في هذه الحياة من أجل أن يكون الامتحان والاختبار، ومن أجل أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، فاقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يقسم الناس إلى شقي وسعيد منذ أن كان هذا الإنسان جنيناً في بطن أمه، حينما يكتب الملك أربع كلمات منها: شقي أو سعيد، وعلى هذا يستمر الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وقد جعل الله عز وجل في هذه الحياة مغريات وأموراً تميل إليها النفوس البشرية بطبيعتها وفطرتها، ولكن الله عز وجل خلق العقل، وأعطاه ميزة تسيطر على هذه الشهوات في كثير من الأحيان، ولذلك فالصراع بين العقل والعاطفة والشهوة هو الذي يحدد مصير هذا الإنسان؛ ولذلك كان لا بد من الاستقامة؛ حتى لا تتغلب العوامل والشهوات على العقل الذي يخاطبه الله عز وجل دائماً، ويعتبره هو المعيار والفيصل بين الإنسان والحيوان، ويخاطبه الله عز وجل دائماً: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:١٠]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:٢٤]، {لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:٤٣] إلى غير ذلك.

فالخطاب في مثل هذه الأحيان يوجه للعقل حتى لا يلغي هذا الإنسان العقل، ولكن هذه العوامل ما زالت تتابع الإنسان، أي: عوامل الانحراف والخطأ كما هي الفطرة البشرية قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:٥٣]، ومن هنا لا بد أن يكون للاستقامة دور، ولا بد أن تكون الاستقامة حينما توجد مثل هذه العوامل، لاسيما إذا كانت هذه العوامل عنيفة شديدة، قد تعصف بالإنسان، فيغفل عن عقله وتفكيره؛ لينسجم مع عواطفه، فيؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى الانحراف، فلا بد إذاً من الاستقامة.

وهذه العوامل العنيفة منها السلبي، ومنها الإيجابي، فالإنسان له شهواته ومطامعه، وله خوفه ورهبته؛ ولذلك فإن المسلم عليه إذا عن أمامه أمر من هذه الأمور التي ربما تعصف بعقله وتفكيره، وبأخلاقه وسلوكه لا بد أن يتذكر هذا عدوه اللدود الشيطان الذي يحذر الله عز وجل عنه فيقول: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:٢٧].