للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الاستقامة التي أمرنا الله بها]

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يقول، وكما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، السراج المنير، والبشير النذير صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين.

أما بعد: الحديث في هذه الليلة عن الاستقامة وعواملها وآثارها وجزائها، فالله تعالى يقول عن هذه الاستقامة ومظاهرها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:١١٢ - ١١٧].

أيها الإخوة! هذه الاستقامة وهذه مظاهرها الخمسة: (وَلا تَطْغَوْا)، (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)، (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ).

أما الاستقامة فمعناها في اللغة: الاعتدال وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً، والمستقيم معناه: الذي هو غير منحرف، وغير ملتو وهو الذي يمثل الخط المستقيم، أي: الطريق المعتدلة، وهذه الطريق ينصح الله تعالى كل واحد من المسلمين أن يلتزم بها في الوصايا العشر التي تجدونها في آخر سورة الأنعام، فآخر هذه الوصايا العشر وهي العاشرة قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:١٥٣].

فالاستقامة: هي اتباع صراط الله المستقيم، وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً.

وعندما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) خط خطاً طويلاً معتدلاً، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً، فقال عن المعتدل: (هذا صراط الله، وعليه داع يدعو إليه، والداعي هو القرآن، وعن يمينه وشماله سبل، وهي التي يقول الله عز وجل عنها: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وعلى كل سبيل منها ستر مرخاة، وعليها شيطان يدعو إليها) وأظن أنه لا يخفى عليكم هؤلاء الشياطين، لقد بدءوا يبرزون اليوم حتى في ثياب المسلمين من المنافقين والمتمسلمين.

ولكن على الصراط داع كلما هم أحد أن يزيح ستاراً نادى هذا المنادي: ويحك يا عبد الله! لا تزح، فإنك إن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في رسم هذه الطريقة بصورة ترى بالعين المجردة.

هذا هو صراط الله، وهذه هي السبل، وذاك هو الاستقامة، وما يقع عن يمينه وشماله من الطرق المنحرفة هي الانحراف، ولذلك تجدون هذه الانحرافات كثيرة جداً، وتتعدد، ولربما يخطئ الإنسان واحداً منها فيصيبه سبيل آخر.

وتأكدوا أن طريق الجنة واحد، وأن طرق النار كثيرة، ولذلك قال: (صِرَاطِي)، وقال: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

ويوضح هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة).

إذا: ً الصراط واحد، وطريق الجنة واحد واضح، والطرق المنحرفة كثيرة جداً، وربما تتعدد في مفاهيمها وأساليبها، وفي دعاياتها ودعاتها، وفي أشكال دعاتها وألسنتهم، لكنها تتحد في الحقيقة في نهايتها، فهي تصب كلها في نار جهنم، قال صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).

إذاً: يا أخي! فتش هل أنت على الصراط المستقيم؟! هل أنت مستقيم على دين الله؟! كيف تستقيم؟ الزم جماعة وطريق المسلمين، ابحث عن السبيل التي يتسم بها المجتمع الإسلامي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يقول عنهم عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة)، هذا هو الصراط.

ولذلك فإن المسلم يسأل الله تعالى أن يهديه إلى الصراط، وإذا هداه للصراط المستقيم سأله أن يثبته؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فيدعو دائماً في الصلاة وفي غير الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦]، وهذا الصراط المستقيم هو طريق الاستقامة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧] فهو طريق واضح.

ولا تظنوا -أيها الإخوة- أن هذه الطريق غامضة، فهي ميسرة واضحة إلا على من ختم الله على بصيرته، نسأل الله العافية والسلامة، فهم الذين يتخبطون في دياجير الظلام قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:٥].

أما المؤمنون فهم يرون هذا الصراط بأعينهم المجردة، ويدركونه بقلوبهم؛ ولذلك نقول دائماً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦]، هذه هي الاستقامة التي نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه دائماً وأبداً.

وهذه الاستقامة هي الثبات على المنهج الصحيح، وعدم التأرجح والشكوك، فالمحجة بيضاء واضحة، تركنا عليها محمد صلى الله عليه وسلم، وحذرنا أن نميل عنها يميناً وشمالاً، ومن مال فلا يلومنّ إلا نفسه.

والاستقامة تتعرض في كثير من الأحيان للفتن، لا سيما في عصرنا هذا حينما ينشط دعاة الباطل، ويضعف دعاة الحق، فيلتبس الأمر، فيرتبك بعض المسلمين ويصير في أمرهم اختلاط مع وضوح السبيل، لكن لوجود مغريات، ووجود أمور ربما تكون سبباً في انحراف طائفة من المسلمين، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه تأتي في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم، دعاة باطل مغريات أهواء شهوات إلى غير ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).

وهذا التقلب يوجد في كثير من الأحيان مع وضوح السبيل، ولا سيما في آخر أيام الدنيا عندما ينشط دعاة الباطل وينام دعاة الحق؛ ولذلك ربما تشاهدون اتجاهات تتعدد في بعض الأحيان، ولربما نفاجأ أن طائفة من الشباب ربما ينحرفون ويتأثرون بالدعاية المضللة، وربما يرتد كثير من المسلمين عن الإسلام؛ لأن الاستقامة غير موجودة عند هؤلاء، بل في دولة إسلامية واحدة يتنصر اثنا عشر مليوناً من المسلمين، لضعف دعاة الحق، ونشاط دعاة الباطل، وبخل المسلمون بأموالهم، ونشاط دعاة الباطل في بذل أموالهم، فكل ذلك من عوامل الانحراف.

أما الأصل فإن هذا الدين فطرة قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠]، فطرة طبع عليها الإنسان يوم كان في ظهر أبيه الأول آدم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:١٧٢]، وبالرغم من هذا العهد والميثاق الذي يقول الله عز وجل عنه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:٦٠]، يقول الله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف:١٠٢] نسوا هذا العهد، فكان ذلك سبباً في انحراف طائفة من المسلمين الذين غفلوا عن العهد، وربما ولدوا على الفطرة، لكن اجتالتهم شياطين الإنس والجن.