للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النظر في ملكوت الله]

من عوامل الاستقامة المهمة: النظر في هذا الملك العظيم لهذا الكون الفسيح: الإيمان إما أن يكون جاء عن طريق الوراثة والبيئة، وإما أن يكون جاء عن طريق التفكير في عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وفي آياته الآفاقية والنفسية والكونية، فإذا كان الأول أصبح هذا الإيمان معرضاً للفتنة وربما ينهار في أي لحظة؛ ولذلك أخبر الله تعالى بأن من الناس من يعبد الله على حرف، فهو مستقيم ما دامت الأمور هادئة ومطمئنة، يؤذن يذهب إلى المسجد يأتي رمضان فيصوم يأتي الحج فيحج لكن هناك ضريبة لهذا الدين، وهناك فتنة وابتلاء فلا يتحمل؛ ولذلك يعتبر هذا النوع من البشر إنما أخذ الإيمان عن طريق الوراثة، حيث وجد أباه يصلي فصار يصلي، وجد أمه تصوم فهو يصوم، لكن لا يتصور معنى هذه العبادة، ولا يعرف من يعبد ولا من يستحق هذه العبادة، يقول الله تعالى عن هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:١١]، يعني: طرف بين الإيمان والكفر، ممكن أن يسقط في أي ساعة {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:١١] بقي على الإيمان إذا كان المسلمون بخير لا توجد فتن ولا ابتلاء، ولا يوجد أذىً ولا مصائب ولا في فتن، لكن عندما تأتي الفتن يبتلى في دينه قال تعالى: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:١١] وإذا انقلب على وجهه {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:١١] هذا النوع من الإيمان الذي لا يكون عن تمحيص وروية وتفكير.

لكن تعال يا أخي إلى الإيمان الذي يحصل بعد البحث والقراءة، والنظر في ملوك السماوات والأرض، وتدبر آيات الله عز وجل في هذا الكون، فهذا الإيمان لا يتأثر بأي عاصفة من هذه العواصف، إيمان كالجبال كما أخبر الله عز وجل عنه: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:٤٦] فلو زالت هذه الجبال من مواقعها لا يزول هذا الإيمان من قلب هذا الإنسان؛ لأنه جاء عن طريق الروية والتفكير، وهذا الإيمان ليس كإيمان القوم الذين يقول الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:١٠] لكنه إيمان كإيمان القوم الذين يقول الله عز وجل عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:٢٢] في أيام الشدة تذكروا وعد الله عز وجل، ربما في أيام الرخاء غفلوا عن هذا الأمر، لكن لما جاءت الشدة ورأوا الأحزاب وتشكلت كل قوى البشر ضدهم، ووقفت جميع قوى الكفر أمام وجوههم زادهم هذا الفعل إيماناً، قالوا: نحن ننتظر هذا اليوم، الآن زاد يقيننا بهذا الدين، والآن زادت ثقتنا بهذا الإيمان، الآن يقوى إيماننا: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:٢٢].

الفتن زادت هؤلاء إيماناً، وزادت أولئك تراجعاً ونكوصاً إلى الوراء قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) من أجل الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ) يعني: يوم القيامة.

فهذا هو الفرق بين الإيمان الذي يحصل بعد بحث وتفكير وبين الإيمان الذي يحصل بتقليد ووراثة؛ ولذلك نجد في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام العبرة العظيمة: كان إبراهيم لا يشك في الله سبحانه وتعالى، حتى في أيام طفولته وشبابه قبل أن يكون نبياً، حتى وهو يعيش في بيئة فاسدة تعبد الأصنام، وأول من يحاربه أبوه، ينظر في هذا الكون فينظر إلى الكوكب ويقول: هذا ربي، فلما أفل الكوكب قال لا أحب الآفلين، ونظر إلى القمر فقال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين! نظر إلى الشمس فقال: هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، هنا جاءت قوة الإيمان، والبراءة من الكافرين والمشركين حتى الأب ويقول: إني بريء من المشركين، يقول: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام:٧٩ - ٨٠] لكن هذه المحاجة جاءت بعد إدراك عميق لعظمة الخالق سبحانه وتعالى: {قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:٨٠].

ثم يبتلى هذا الإيمان وهذه الاستقامة فلا تتأثر، يلقى في النار فلا يبالي، ويؤمر بذبح ولده فلا يبالي، ويؤمر بأن يبقى ولده وزوجه في مكة بواد غير ذي زرع فلا يبالي، كل ذلك استجابة لأمر الله عز وجل؛ لأن الإيمان قد قوي في هذه النفس، واستقر في هذا القلب، فهذه هي الاستقامة.