للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترك الطغيان]

قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:١١٢]: الطغيان وهو أول عامل من عوامل عدم الاستقامة، لأن الطغيان مجاوزة الحد، وقلت لكم إن الزيادة في العبادة تعتبر طغياناً؛ ولذلك جاء ثلاثة نفر ذات يوم إلى بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عمله في السر، فأخبرتهم إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم بعمله في السر، فتقالوا هذا العمل، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد وقال الثاني: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء.

فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما فعله هؤلاء؛ فخاف أن يكون ذلك حدثاً في دين الله، وخاف أن يحدث الناس تشريعاً لم يشرعه الله عز وجل، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فغضب غضباً لم يغضب مثله أبداً، وصعد المنبر وقال: (أما بعد: فإني أتقاكم لله، وإني لأصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فالطغيان حتى في العبادة لا يجوز؛ ولذلك فإن الطغيان بكل أنواعه خطير جداً، طغيان المادة يفسد الأمم، والتكبر في الأرض يفسد أصحابه؛ ولذلك أخبر الله تعالى بأنه أخذ الأمم حينما طغوا في البلاد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:٦ - ١٤].

يقول الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) أي: فلينتبه كل من طغى، وهذه الآية تعطينا معنىً جديداً خالداً إلى يوم القيامة أن كل من طغى، وتجاوز الحد، وركب محارم الله، وتعدى على خلق الله، واستذل من أعزه الله، وحاول أن يذل المؤمنين، وحاول أن يظهر مظهر الكبرياء والخيلاء والعظمة التي لا تكون إلا لله، فإن الله عز وجل له بالمرصاد.

ولذلك نقرأ في أخبار الأمم السابقة في القرآن: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:٤٠].

ثم نقرأ بعد ذلك قصة الطاغية الجبار العنيد الذي كان يستذل الأمم ويقول لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] ويزيد في طغيانه وتكبره على الله عز وجل فيقول: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص:٣٨]؛ لأنه يؤمن في قرارة نفسه بأن الله تعالى موجود، وأن الله هو الرب الحقيقي قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤] هذا الطغيان! (طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) فأخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر.

وإذا لم يأخذ الإنسان عظة وعبرة من الأمم السابقة فعليه أن ينظر في أمم طغت في أيامنا الحاضرة، أو في عصرنا الحديث أو قبل سنين، فماذا فعل الله تعالى بالمسلمين في الأندلس؟ أصبحوا خبراً بعد عين.

ماذا فعل الله تعالى بلبنان؟ ماذا حدث في أمم عشناها نحن؟ بمقدار ما ركبوا من محارم الله، وبمقدار ما اشتدوا على خلق الله، عاقبهم الله سبحانه وتعالى في الدنيا قبل الآخرة، وليس هناك ذنب أعظم وأحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا قبل الآخرة من الظلم في الأرض، فإن الظلم يعجل الله عز وجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.

فالذين يظلمون الشعوب ويتعدون على محارمهم، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، هؤلاء قد يعاجلهم الله عز وجل بعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وكم سقطت من أمة، وكم درج في هذا التاريخ الطويل عبر هذه الحياة الطويلة من الأمم فصار خبراً بعد عين! أيها الإخوة! قال تعالى: {وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:١١٢] يعني: يدرك أموراً لا يدركها الناس.