للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موسى وقومه يرحلون من مصر]

ثم جاء درس من الدروس العجيبة، درس لا يتأمله إلا المؤمنون، يأذن الله عز وجل لموسى بالرحيل من مصر هو وبنو إسرائيل، ويتجه موسى بستمائة ألف من بني إسرائيل -كما يقول المفسرون والمؤرخون- مشرقين في آخر الليل، وعند وقت الشروق ينتبه فرعون وقومه بأن بني إسرائيل سوف يهربون، ثم يلحقهم وقد استكمل كل طغاته وعتاته وجنوده من أجل أن يبطش بهؤلاء المستضعفين، ثم يلحق بهم فيكون موسى وبنو إسرائيل بين العدو وبين البحر، وهو موقف محرج لولا أن الإيمان أقوى من ذلك كله، فيلتفت بنو إسرائيل ويقولون لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١] العدو وراءنا، والبحر من أمامنا، ماذا نفعل؟! لكنّ موسى عليه الصلاة والسلام الذي رباه ربه سبحانه وتعالى على الإيمان واليقين يعلم أن هذا الدين هو لله عز وجل وليس له، وليس لأحد من الناس، وأن الذي فرض هذا الدين هو الذي سوف يدافع عنه، وأنه الآن لا بد أن تكون هناك حماية، وأن هذا البحر وإن كان مائجاً يغرق، والعدو من ورائهم فتاك عنيد، لكن لا بد أن يأتي الفرج، فيقول موسى عليه الصلاة والسلام: (كَلَّا) يعني: الآن لسنا بمدركين، هم في الحقيقة مدركون حسب الظواهر المرئية؛ لأن البحر من الأمام، والعدو يحيط من الخلف، وسوف يلجئهم إلى البحر ويغرقهم، لكن الإيمان فوق ذلك، فهو يقول: (كَلَّا) ولذلك ما قال: لا، بل قال: (كَلَّا)، وهي أبلغ في النفي وتأكيد النفي: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢] أنا أسير على منهج من عند الله، أنا لم أسر على غير منهج؛ فربي سوف يوفقني، وفعلاً يهديه الله عز وجل، وتتعطل نواميس الحياة وأنظمة هذا الكون ليتحول ذلك البحر المائج إلى طريق يابسة، إنها قدرة الله عز وجل! ثم يعبر موسى وقومه في اثني عشر طريقاً على عدد أسباط بني إسرائيل وقبائلهم، حتى تجمد البحر، وأصبح طبقاً كالجبال واقفة، وأصبح جدداً -جمع جادة- يسيرون عليها، وكل ينظر إلى الآخر من وراء الماء يطمئن على صاحبه، ويعبرون البحر بقدرة الله عز وجل: (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) يتجمد البحر ويتجمد كل شيء، وتتجمد الدماء في عروق الطغاة حينما يزيد بطشهم بالمؤمنين، والله عز وجل من ورائهم محيط.

إذاً: المسألة هي قدرة الله عز وجل التي لا تغلب، ويعبر موسى ومن معه إلى الضفة الشرقية، ويعبر فرعون وجنوده داخل البحر، حتى إذا اكتمل موسى ومن معه خارجين إلى الجهة الشرقية، واكتمل فرعون وكل جنوده داخل البحر؛ أمر الله عز وجل البحر أن ينطبق عليهم ليستأصلهم عن آخرهم: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:٥٥ - ٥٦].

هذا درس يجب أن يفهمه المؤمنون دائماً، ويجب أن يفهموه في ساعة الشدة بصفة خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:١١٠]، فالنصر لا يأتي غالباً إلا بآخر لحظة من لحظات الابتلاء، ولذلك أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ونجا موسى ومن معه، فأصبح الأمر آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى.