للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السبب الثالث: التزام أوامر الله تعالى ورسوله في كل الأحوال]

ثم يقول تعالى مبيناً السبب الثالث للنصر: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:٤٦].

فعند مقابلة الفئة الكافرة في المعركة وقبل مقابلتها وبعد مقابلتها، لابد من طاعة الله ورسوله طاعة مطلقة، لا خلاف فيها ولا اعوجاج ولا انحراف، ليست هناك خيرة، وإنما الخيرة لله عز وجل ولرسوله.

فلقد عُوقب الصحابة -وهم خير البرية- يوم أحد بسبب معصية صغيرة، وذلك حينما قال النبي عليه السلام للرماة في ذلك اليوم: (اثبتوا على الجبل، ولا تنزلوا ولو رأيتم الطيور تتخطفنا) فلما تقهقر المشركون، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم، ظن الرماة الذين كانوا على رأس الجبل أن المعركة قد انتهت، وأن الوقت قد حان للنزول، فنزلوا متأولين، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:١٥٢] وهذه المعصية أحاقت بالمسلمين هزيمة قاسية؛ حتى إن الرسول عليه السلام شج رأسه، وكسرت رباعيته، ووقع في حفرة، حتى أحاط به المسلمون يحمونه ويذودون عنه أذى الكفار، وكل ذلك كان بسبب معصية خمسين رجلاً من المسلمين، لا ملايين البشر، وكانت معصية صغيرة حسب رأيهم، وكانت بتأول، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:١٥٢].

وإذا بدأنا نستعرض معاصي الناس اليوم في ساعة المعركة، فسيطول بنا المقام، وهي معلومة لدى الجميع، ولكن نقول: إن الله تعالى شكور حليم لطيف، ولولا لطف الله سبحانه وتعالى لما تحقق لنا النصر، لكن الله تعالى قد يعطينا النصر إما امتحاناً، وإما لحملنا على الرجوع إليه عز وجل، ولذلك أقول: لابد من التوبة في مثل هذه الأيام، ولابد من مراجعة الحساب، ولابد من الإنابة إلى الله عز وجل {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:٥٤ - ٥٩] فهذه المعاصي لربما تحبط كل سبب، وتبطل مفعول كل سلاح؛ فلا بد من العودة إلى الله عز وجل.

وفي ساحة المعركة يغربل الله عز وجل المؤمنين ويمتحنهم، ولقد ذكر الله تعالى في القرآن قصةً تصوِّر هذا الأمر، ألا وهي قصة جالوت وطالوت، فإن الله سبحانه وتعالى أخرج مع طالوت أمة كبيرة للجهاد في سبيل الله، فانقسموا إلى قسمين: قسم عصوا الله، فتخلفوا عن المعركة، وكانوا يمثلون الأكثرية الساحقة.

وقسم التزم بأمر الله عز وجل فتحقق لهم النصر، وإن كان عددهم قليلاً.

وتفاصيل هذه القصة أن الله عز وجل بعث لبني اسرائيل ملكاً يُدعى طالوت وأمرهم بالقتال معه، فكان منهم أصحاب مقاييس مادية، نظروا بمنظار مادي إلى طالوت، وقالوا: لم يؤت سعة من المال؛ فكان هذا سبباً من أسباب تخلفهم عن المعركة؛ لأن النظرة المادية دائماً تؤدي إلى الغفلة عن القدرة الإلهية، ومن ثم تؤدي إلى الهزيمة النفسية.

ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنهم، فأجرى لهم نهراً بارداً وهم عطاش، فقال لهم: لا تشربوا من هذا النهر إلا بمقدار شربة واحدة واتركوا البقية {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:٢٤٩] وهذه هي المعصية الثانية؛ حيث شرب أكثرهم من ماء النهر ولم يتقيدوا بما أمروا به.

ثم بعد ذلك حينما حانت لحظة المواجهة، وقف الناس في جيش طالوت وقد أرهبتهم قوة البشر: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:٢٤٩] فكان ذلك سبباً ثالثاً من أسباب الزعزعة التي حلت بجنود طالوت؛ حيث استعملوا المقاييس المادية وغفلوا عن المقاييس الروحانية.

إلا أن الفئة القليلة التي ثبتت انتصرت في المعركة لأسباب: أولاً: هذه الفئة لم تشرب من النهر طاعة لله عز وجل.

ثانياً: لما رأوا العدو أيقنوا بنصر الله سبحانه وتعالى، وقالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٩] فكان تعلقهم بالله لا بالبشر، وكان نظرهم إلى الكيف لا إلى الكم.

ثم جاءت القضية الأخيرة وهي التضرع بين يدي الله عز وجل، فلما برز هؤلاء القلة الذين لم يشربوا من النهر، ولم يدخل في قلوبهم خوف غير الله عز وجل، ورأوا العدو؛ تضرعوا إلى الله عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٢٥٠] ثم تحقق النصر للعدد القليل، وقد خاف من الهزيمة العدد الكثير، قال تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٥١]، بالرغم من قلة الأسباب لكن النصر كان بإذن الله.

إذاً: فالمقاييس المادية لا تصلح أن تكون ضابطاً لتنزل نصر الله عز وجل أو حلول الهزيمة في حق أي فئة من الفئات.