للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السبب السادس: أن يكون الخروج إلى الجهاد طلباً لمرضاة الله ورفعة دينه

السبب السادس والأخير من أسباب النصر هو المفهوم من قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:٤٧] وهذه الآية تحكي قصة خروج كفار قريش في بدر، وذلك حين خرج المسلمون مع رسول الله لاعتراض عير لقريش، فقام أبو سفيان باتخاذ طريق الساحل حتى لا يواجه المسلمين، فلما تم له ذلك أرسل إلى أهل مكة ألا يخرجوا؛ لأن العير قد سلمت من محمد، إلا أن أبا جهل أبى ذلك، وقال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً وننحر الجزور ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان؛ حتى تعلم العرب بمسيرنا فلا يزالون يهابوننا أبد الدهر، فهو مصمم على أن يحارب الإسلام بالرغم من أن عير قريش قد سلمت! فهو إنما خرج لإحقاق الباطل ولإظهار الفساد والاستكبار في الأرض.

وقد نهى الله عز وجل المسلمين أن يخرجوا مثل هذا الخروج، فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:٤٧] أي: بطرين، ومن أجل أن يرى الناس مكانهم في هذه الأرض ويهابوهم، وهؤلاء هم الذين أحلوا قومهم دار البوار، فعلى المسلمين إذا خرجوا للجهاد في سبيل الله أن يكون خروجهم لهدف سامٍ وواضح، فإن أول سبب من أسباب النصر هو حسن القصد، فيجب أن يكون الخروج من أجل أن يكون الدين كله لله، ومن أجل الدفاع عن بلاد المسلمين ومقدساتهم، ومن أجل ألا يتسلط الكافرون على المؤمنين، وألا تكون للكافر شوكة في هذه الأرض، وألا تطأ الأقدام القذرة أرض الإسلام ومقدسات المسلمين، ومن أجل أن ترتفع راية الإسلام وراية التوحيد، وهذا هو الهدف الذي من أجله يجب أن يجاهد المسلم ويقاتل؛ أما من كان خروجه في سبيل الوطن دون أن يكون قصده الدفاع عن بلاد المسلمين، أو كان خروجه من أجل الشهرة أو يقال: إنه شجاع، فهذا يكون حطباً لجهنم، وقد ورد في الحديث أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، وجاء فيه: (ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: ماذا فعلت؟ فيقول: أي رب! أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء فقد قيل) فمع أنه استشهد في سبيل الله حسب ظواهر الأمور، إلا أنه يكون من أول من يدخل النار والعياذ بالله.

فلابد من إصلاح القلب؛ ولابد من إصلاح القصد، بحيث لا يخرج الإنسان بطراً ولا رياءً، وإنما يكون خروجه من أجل أن ترتفع راية الإسلام، وأن تنخفض راية الشرك والكفر والطغيان في الأرض.

أما لو خرج الجيش مغروراً بعدده الكبير؛ أو بعتاده وتقنيته العصرية المتطورة التي بلغت الذروة، ففي مثل هذه الحال يأتي الخطر، خصوصاً إذا صدر هذا الفعل عن أمة مسلمة تخرج مغرورة بقوتها أو بعددها أو بعتادها أو بأسلحتها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:٤٧].

(والبطر) الكبر وهو: غمط الحق واحتقار الناس، (ورئاء الناس) من أجل أن يرى الناس مكانهم في هذه الأرض كما قال أبو جهل عليه لعنة الله! فينبغي لمن أراد الخروج للقتال أن يخرج خاضعاً لله عز وجل، يمد أكف الضراعة لله سبحانه وتعالى، ويستكين لله سبحانه وتعالى، ويطلب النصر من عند الله دون أن يغتر بالقوة.

ولقد كان عدد المسلمين يوم حنين اثني عشر ألفاً بقيادة الرسول عليه السلام، وكانت هذه الغزوة بعد فتح مكة، ولم يسبق أن اجتمع مثل هذا الجيش في أي غزوة من غزوات الرسول عليه السلام، وبالرغم من كثرة هذا العدد وقلة العدو كانت المعركة في بدايتها لغير صالح المسلمين، وفر الناس لا يلوون على شيء، وبقي الرسول وحده مع طائفة قليلة.

وسبب ذلك: أن أحد المسلمين أخطأ، إذ نظر إلى الجيش الكبير المكون من اثني عشر ألف مقاتل فقال: لن نُغلب اليوم من قلة، وما زاد على هذه الكلمة، فلم يقل: نتحدى القدر، كما يقول ذلك بعض الناس الذين يريدون أن يحاربوا وهم بعيدون عن الله عز وجل، وقد كان قوله: لن نُغلب اليوم من قلة.

بحسن قصد؛ فحاقت الهزيمة بالمسلمين، وفر أكثر المسلمين من المعركة وعددهم حينذاك اثنا عشر ألفاً، وما بقي مع الرسول عليه السلام إلا عدد قليل، ثم أمر الرسول عليه السلام عمه العباس أن ينادي: يا أهل الشجرة! يا أهل بيعة الرضوان! فاجتمع المسلمون حول النبي عليه السلام، ودارت المعركة مرة ثانية، ولنا أن نتصور الهزيمة التي كادت أن تنزل بجيش الرسول عليه السلام بسبب كلمة، فلما فاء المسلمون إلى ربهم وعرفوا أنهم بحاجة إلى نصر الله تعالى، دارت المعركة مرة ثانية، وانتصر المسلمون، وقد صور الله تعالى هذا الموقف فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:٢٥] بالرغم من سعة الأرض فقد أصبحت في نظركم ضيقة، {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:٢٥] أي: هربتم من حول الرسول عليه السلام، {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:٢٦].

فالغرور هو الذي يبطل مفعول القوة، والقوة مهما كانت ضارية فيها العتاد والسلاح والتقنية الحديثة، إلا أنه لا يمكن أن تنتصر إلا بالخضوع لله عز وجل والاستكانة إليه.

فلابد من الاستكانة لله عز وجل، والشعور بالضعف أمام قوته، والتضرع بين يديه جلت قدرته؛ فلا ينظر المسلم إلى الكثرة، وإلى عدد الطائرات والأسلحة والأموال والجيش والجنسيات المتعددة، وإنما ينظر إلى شيء واحد وهو أن هذه أسباب إذا أراد الله لها أن تنتصر فستنتصر، ولو كانت أقل بكثير من هذا العدد، وإذا أراد الله تعالى أن تنهزم فستنهزم، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:٤٧].

فيجب علينا تصحيح الهدف، بحيث يكون الهدف هو: الدعوة إلى دين الله، وتطهير الأرض من الفساد، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإذا كان الهدف غير ذلك فالأمر خطير.

وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:٤٧] يدل بمفهومه أنه لابد أن تكون هذه القوة من أجل أن تفتح الطريق لدين الله تعالى حتى ينتشر في هذه الأرض، {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:٤٧ - ٤٨].

وقصة الشيطان معروفة مع ابن آدم، إذ لم يزل يفتنه حتى ورطه وأدخله في متاهات الكفر ثم تخلى عنه، وقد جاء الشيطان إلى أهل مكة في يوم بدر، وكانوا خائفين من كنانة، فقال لهم: (إني جار لكم)، أي: أنا أحميكم من كنانة، وما زال بهم ليخرجوا لقتال محمد صلى الله عليه وسلم حتى خرجوا، فلما تراءى الجمعان ورأى الشيطان الملائكة تنزل من السماء هرب ورمى نفسه في البحر: {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:٤٨].