للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السعادة في الدنيا]

أما سعادة الدنيا فإن الله تعالى يقول: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:١٦]، والمراد: أعطيناهم متع الحياة كلها ويسرنا لهم سبيل العيش.

وليس بين هذه الآية تعارض وبين الأدلة الأخرى التي تبين أن الناس إذا انحرفوا -أيضاً- فتح الله عليهم أبواب الدنيا، وهناك فرق بعيد بين هذا النعيم وبين المتاع الثاني الذي يعطيه الله عز وجل للمنحرفين من الناس.

أما هذا المتاع فإنه متاع إلى سعادة أفضل، وأما المتاع الثاني فإنه استدارج من الله عز وجل واختبار حتى يدنيهم من العذاب درجة بعد درجة، ولذلك يقول الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:٤٤] أي: نعطيهم من أنواع النعيم ونحن ندنيهم من العذاب درجة بعد درجة، ولذلك يقول الله بعد ذلك: {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف:١٨٣] أي: أمهلهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣] فيبين الله تعالى أنه من كيده وأنه من مكره بهؤلاء الكافرين، ولذلك يبين في مكان آخر أن الناس إذا أعرضوا عن دين الله فإنه يفتح لهم أبواب النعيم ويعطيهم من الدنيا فوق ما يفكرون به، وذلك استدراج من الله عز وجل حتى تقوم عليهم الحجة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٤ - ٤٥].

بل يبين الله تعالى في مكان آخر أن الناس يمتحنهم الله تعالى بالعذاب وبشظف العيش وبالخوف وبالقلق إذا عصوا الله تعالى، فإذا لم تجد فيهم المواعظ فإن الله يختبرهم بالنعيم بعد ذلك، فيقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:٩٤ - ٩٥] أعطيناهم بدل الخوف أمناً، وبدل الجوع مالاً، وفجرنا لهم من وراء آلاف الأقدام ينابيع الأرض حتى يتمتعوا في هذه الحياة ليختبرهم الله عز وجل بالنعيم، {حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:٩٥] نسوا ما مضى {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:٩٥] أي: كان آباؤنا بالأمس يعيشون في شظف من العيش، وهذه النعمة التي بأيدينا هي بدل شظف العيش الذي كان يعيش فيه آباؤنا بالأمس.

هذا هو حديث الناس اليوم في البلاد التي فتح الله تعالى عليها الخيرات وأنعم عليها وفجر لها ينابيع الخيرات من وراء آلاف الأقدام، ما هي النتيجة: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:٩٥].

ومن هنا نعرف أن النعيم قد يأتي استدراجاً وامتحاناً من الله تعالى، بل قد يأتي عقوبة: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف:٣٣] أي: على الكفر {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٣ - ٣٥].

إذاً ليس انفتاح الدنيا على الناس دليل الرضا، ولذلك يخطئ الإنسان إذا استعمل المقاييس المادية التي استعملها الجبابرة والطغاة بالأمس، ومنهم فرعون الذي يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:٥١ - ٥٣]، فكانوا يظنون أن المقياس هو الثروة وهو المادة، ولكن الله سبحانه وتعالى يبين أن المقياس غير ذلك: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:١٥ - ١٧] أي: ليس ذاك إكراماً وليس هذا إهانة، بل كلاهما اختبار من الله سبحانه وتعالى.

هذه هي نتائج الاستقامة في الحياة الدنيا، تأتي الدنيا وهي راغمة وتكون متاعاً إلى حين، ولذلك أخبر الله تعالى في كتابه أن هذه الأرض خلقت من أجل المؤمن، وأن هذا الرزق الذي أرسله الله تعالى في هذه الحياة إنما جاء من أجل المؤمن، وإذا كانت الأرض خلقت من أجل المؤمن فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:١٢٨]، وإذا كان الرزق للمؤمن وحده ويشاركه الكفرة كما تشارك البهائم الإنسان في متاع الحياة الدنيا فإن هذا المتاع يكون خالصاً للمؤمن يوم القيامة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢]، ومن لطف الله عز وجل بعباده أن جعل الدنيا يأكل منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولكن الحياة الآخرة لا تكون إلا للمؤمنين، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٥].