للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القوة والأمانة في شخصية موسى عليه السلام]

أما موسى عليه الصلاة والسلام فقد كان رجلاً يعدّه الله عز وجل للرسالة، فكان لابد من أن ينكر هذا المنكر الذي شاهده في بلاد مدين كما أنكر المنكر في مصر، ولابد من أن تأخذ المرأة بنصيبها في منأى عن الرجال، فاستعمل قوته التي منحه الله عز وجل إياها فسقى لهما، ثم رجعت الفتاتان إلى أبيهما مسرعتين، فيستغرب الأب كيف وصلتا في وقت مبكر، وكيف استطاعتا سقي الغنم في هذه المدة الوجيزة، مع أنهما لا يخالطن الرجال، ومن عادتهما الإبطاء! فسألهما عن السر فأخبرتاه عن قصة الرجل الصالح الذي استعمل قوته فسقى لهما، فما كان من رجل مدين إلا أن أرسل إحدى البنتين -وهي- أيضاً -ضرورة ثانية- لتأتي بهذا الرجل الذي سقى لهما؛ لأنه لم يكن له أبناء ذكور.

وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد جلس في ظل شجرة عند ذلك الماء يتوسل إلى الله عز وجل، ويسأله من فضله أن يمن عليه بمن يؤويه من هذا الظلم الذي هرب منه في أرض مصر، فيقول مناجياً ربه سبحانه وتعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:٢٤]، ثم يسعفه الله عز وجل بعودة إحدى هاتين البنتين اللتين سقى لهما تمشي على استحياء، فعلى المرأة المسلمة أن تمشي بحياء وخجل محتشمة غير متبرجة، فإن الحياء يعتبر هو الصفة البارزة في المرأة، ويعتبر الحياء -كذلك- من أخص خصائص أمة الإسلام، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لكل أمة خلقاً، وإن خلق أمتي الحياء، وإن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً).

ولما سأل عليه الصلاة والسلام ابنته فاطمة رضي الله عنها عن أحسن ما تكون المرأة.

قالت: (أن لا ترى الرجال ولا يرونها).

فالحياء صفة لازمة للمرأة دائماً وأبداً حتى قبل الإسلام {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:٢٥]، فليست تمشي في وسط الطريق، وليست تمشي متبرجة، وليست تمشي وقد فقدت أهم مقومات المرأة وهو الحياء، وليست تمشي متبخترة متبرجة متطيبة تفتن الرجال، لكنها تمشي على استحياء، ثم تقول لموسى عليه السلام بأدب وحياء: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:٢٥].

ثم يسير معها موسى عليه الصلاة والسلام، ويظهر بعد ذلك أدب الرجال وحياؤهم كما ظهر في النساء، فكانت هذه الفتاة تسير أمامه تدله على الطريق، فرأى أن الريح سوف ترفع ثوبها لتكشف شيئاً من ساقيها، فقال: أنا أسير أمامك وأنتِ تسيرين خلفي وتدليني الطريق يميناً أو شمالاً.

ففهمت هذه المرأة أن هذا الرجل أمين إضافة إلى أنه رجل قوي، فالقوة شاهدتها في موسى عليه الصلاة والسلام حينما زاحم الرجال وغلب أشداء الرجال بقوته الجسمية، ورفع الغطاء الذي يوضع على البئر ليسقي لهاتين البنتين، أما الأمانة فقد رأتها منه حينما جعلها تسير وراءه بدل أن تسير أمامه حتى لا تكشف الريح ثوبها فيرى شيئاً من بدنها، فلما جاءت إلى أبيها قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:٢٦]، وهكذا ربى الله عز وجل موسى عليه السلام ليكون رسولاً إلى أعظم طاغية وطئ الأرض وأشد جبار عرفه التاريخ.

وبناءً على ذلك لابد لكل من تولى أمراً من أمور المسلمين -سواءٌ الولاية الكبرى أو ما دونها، حتى رعاية الغنم- لابد له من أن يتسم بهاتين الصفتين: القوة والأمانة، أما القوة فتتمثل في قول الحق وقوة الجسد وقوة العقل، أما الأمانة فتتمثل في التقى والصلاح والاستقامة، وإذا فقدت القوة والأمانة ضاعت الدولة، وتجرأ عليها أعداؤها، وأصبحت عرضة للدمار والسلب والنهب؛ لأن قيادتها غير حكيمة وغير أمينة، فالولايات الكبرى والسلطة العامة لا تنقاد إلا للرجل الصالح القوي الأمين، فالقوة قوة العقل والتفكير وقوة الجسد والقوة في قول الحق ودحر الباطل، والأمانة معناها أن يخلص في قيادة هذه الأمة، وإذا لم تتوافر هذه الصفات في الولاة وانتشرت الفوضى في أوساط الرعية وعمت البلبلة وسيطر الظلم كانت العاقبة الحرمان من الجنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة).

ولذلك لا عجب من أن يكون أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل، الذي يحكم في الناس بشرع الله عز وجل، ويرفض كل ما يتنافى مع شرع الله عز وجل، ويعتبر الولاية مسئولية عظيمة ينبغي أن يقوم بها على أكمل وجه، وأنها تكليف لا تشريف، ويعتبرها عبئاً ثقيلاً كما اعتبرها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلما بويع له بالخلافة صعد المنبر وقال خطبة علم من خلالها القادة إلى يوم القيامة مدى عِظم مسئولية الخلافة التي تحملوها، فقال في مستهل خلافته: (أيها الناس! إني قد وليت عليكم وليست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني) ثم يبين ميزان العدل في الأرض، وهي الميزة التي لابد من أن يتصف بها كل من ولي أمراً من أمور المسلمين فقال: (القوي منكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).

هنا تبرز القيادة الصحيحة التي تنطلق من الوحي ومن مشكاة النبوة، والتي تعتبر مضرب المثل في التواضع، والحرص على العدالة، والتزام التقوى، وإدارة شئون الحكم طبقاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فيرون أن الخلافة عبئاً وأمانة يقومون على أداء مهامها بما يرضي الله سبحانه وتعالى.

أما الذي يعتبر أمر المسلمين غنيمة وفرصة للتمتع والتكبر والغطرسة فقد خان الأمانة، وعرض نفسه يوم القيامة للخزي والندامة، ويعتبر ذلك علامة من علامات الساعة، وحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

فإذا كان أمر المسلمين بأيدي الفسقة والمارقين من الدين فمعنى هذا حلول النكبات المتتابعة على الأمة، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك خصالاً إذا فعلتها هذه الأمة حل بها البلاء، وذكر من هذه الخصال: (إذا ساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم) فإذا كان ذلك حينئذٍ يقول عليه الصلاة والسلام: (فانتظروا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً، وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع) أي: كالمسبحة حينما ينقطع خيطها فتخرج خرزة بعد الأخرى حتى تنتهي.

ومعنى ذلك أن النكبات سوف تتابع على هذه الأمة إذا كان زعيم القوم أرذلهم وساد القبيلة فاسقهم.

إذاً لابد في كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين من أن يكون قوياً أميناً، ابتداءً من رعاية الغنم التي هي مهنة موسى عليه الصلاة والسلام بادئ ذي بدء إلى رعاية العالم، وما أكثر ما ينطلق رعاة الغنم ليكونوا هم قادة العالم، فكثيراً ما يربي الله عز وجل أنبياءه على رعي الغنم، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بعث الله من نبي إلا رعى الغنم.

قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم.

كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).

فمعنى ذلك أن رعاية الغنم هي البداية لقيادة الأمم، فإذا كانت رعاية الغنم تحتاج إلى القوة والأمانة فمن باب أولى رعاية البشر، حتى يطبق شرع الله في الأرض، ولذلك جعل الله تعالى صفات من ولاه أمراً من أمور المسلمين ومكن له في الأرض إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك نجد أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما طلب شيئاً من حكم مصر قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٥]، فالحفظ والعلم والقوة والأمانة هي الصفات التي يجب أن يتصف بها كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين.